إيوان مكةخواطر قاري

فهد الحارثي يعترف : القراءة صنعتني على المسرح! 

 كلما قرأتُ أو استمعتُ للناجحين في مجالات المعرفة والفنون المتعددة ؛ استبان لي بجلاء مكانة ودور القراءة وتعاطي الكتاب كأحد منطلقات النجاح المهمة في تأسيس وتأهيل وتميّز الإنسان نحو ما يحبّهُ ويُحسِنهُ في الحياة . 

في دورة “أساسيات الكتابة المسرحية” – المقامة مؤخراً بنادي جدة الأدبي – التي كنتُ محظوظاً بها مرّتيْن – الأولى كانت قبل 3 سنوات – مع مُقدّمها الكاتب والمخرج المسرحي المبدع الأستاذ فهد ردة الحارثي “عرّاب المسرح السعودي” ، صاحب البصمة المميزة في الكتابة والإخراج المسرحي ، والحاصل على جوائز بمعظم أعماله المشاركة في 43 مهرجاناً للمسرح على مستوى المملكة والعالم العربي ، ورصيد 40 مسرحية منفّذة للكبار والصغار ؛ طُبعت في 7 إصدارات كان آخرها “الجثة صفر” الذي حقق جائزة “كتاب العام” 1436هـ بوزارة الثقافة والإعلام في مجال المسرح . 

تميّزت الكتابة المسرحية عند أ.فهد ردة بالمزج بين النص المسرحي المتميز ، واستحضار الفعل الحركي على خشبة المسرح داخل النص ؛ بالشكل الذي يدعم الخيال للمتلقي القارئ ، ويسهّل على المخرج تجسيد الحدث أمام المشاهد ، وهذا ما يجعل النصوص التي تخرجُ من تحت يديه تحكيماً في دوراته نصوصاً جاهزة للتنفيذ . 

وهو يملكُ ثقافةً واسعةً في مجال المسرح تجعل منه متخصصاً يُقصد ويُطلبُ للتحكيم والتقييم في مهرجانات المسرح على مستوى العالم العربي ، صنع تلك الثقافة عنصرٌ مهم منذ نشأته في أجواء الطائف المأنوس ؛ حكاه بفخر حينما سألهُ أحدُ الحاضرين بالدورة عن سرّ تكوينه الثقافي في المسرح كتابةً وإخراجاً ؛ فكانت الإجابة : القراءة وحب الكتب !  

وهنا استرجع أ.فهد ذكريات طفولته وكيف أنهم كانوا جيلاً محظوظاً ، وسردَ شريطاً من الزمن الجميل في اعتراف متواضع ووفاءٍ للزمان والمكان والشخوص ، لا أملكُ إلا نقلهُ كما هو بلسانِ صاحبِهِ شاهداً على العصر ، وحافزاً لأولئك الذين يستسهلون القفز على الوقت واستعجال قطف الثمار بلا خبرةٍ ولا طولِ دُرْبةٍ في صناعةِ ذواتهِم .. سأتركُ الكلمات لعرّاب المسرح – وهو يُكاشِفُ عن بداياته المُثابِرة ومآلات الأيامِ العصيبة كيف تمخّضَت نجاحاتٍ أثيرة – كما سمعتُها منه .. يقول : 

“لقد كنتُ أقرأ وأقرأ وما زلتُ طفلاً ، وكان بحيّنا رجلٌ أميٌّ يُدعى بـ ( السيد ) ، كان يبيع ويشتري في الكتب المستعملة ؛ خاصةً مقررات الجامعات والمدارس والكتب التي يأتي بها المعلمون المصريون وغيرهم ؛ حيث كانوا في نهاية فترة عملهم – وهم ذاهبون لقضاء إجازتهم في بلدانهم – يبيعونها على السيد الذي كان يقدّر قيمتها بَخْساً بالنظر إلى شكلها ووزنها ! فهو لا يعرف ما تحتويه . 

كان السيدُ شخصاً لا يقرأ ، يعيش وسط مجموعة هائلة من الكتب ، كانت متنوعةً في معارف وفنون مختلفة للدرجة التي مكّنتنا من قراءة كتب في الاشتراكية ، والناصرية ، والماركسية ، وأخرى عن الإلحاد ..!! وقد يكون من هذه الكتب ما هو مخطوط ؛ فقد أعجبني يوماً كتابٌ مخطوط فاشتريتُهٌ منه بسعر زهيد ، وبعد أن عرفَ أحدُ المهتمّين بقيمته ؛ سعى حثيثاً باذلاً الغالي في شرائه والحصول عليه ! 

كنّا نأتي إلى السيد ونحن صغار نشتري الكتب ، كل ما يمكن أن تتخيله منها : من مجلدات ميكي ، وسوبرمان ، وطرزان وغيرها .. كنّا نأخذها بسعر زهيدٍ جداً ؛ فكنتُ أشتري الكتابَ من السيد بريالين أو ثلاثة ، فآخذهُ للبيت وأجلس في قراءته إلى الفجر حتى أنهيَه ؛ من أجل أن أرجعهُ في اليوم التالي وآخذ كتاباً آخر مكانه بنفس السعر !  

هذه القراءات المتوالية نمّت فينا حبّ الكتاب والثقافات المتعددة ، لقد أسهم ذلك الرجل الأمي ( السيد ) في إثراء جيل كامل ؛ فمعظم الكتّاب الكبار – الذي عاشوا بالطائف – أمثال : عثمان الصيني ، عبد العزيز الطلحي ، سعد الحميدين ، وغيرهم كلهم يذكرون فضل ( السيد ) في تنمية وتأسيس ثقافتهم بذلك الزمن الثريّ . 

أما ورطتي بالمسرح فكانت في مرحلة متأخرة ، قبلها كنتُ أكتبُ شعراً ، وقصة ، ومقالةً .. لكنّي لم أكتب مَسرحيةً إلا في فترة متأخرة جداً عندما تعرّفتُ على مجموعة من المسرحيين ، وكنتُ في تلك الفترة أمارس العمل الصحفي بجريدة البلاد عام 1407هـ ؛ فوجدتُ أن هناكَ فقراً شديداً في الصحافة ناحية المسرح ، فعملتُ صفحةً بالجريدة عن المسرح ، وكان جلّ اهتمامنا بها قضية بث الثقافة المسرحية : أنواع المسرح وأشكاله إضافة للناحية الإخبارية البسيطة ، تلك التجربة في الإعداد للمواد الصحفية عن المسرح أفادتني شخصياً كثيراً فبدأ المسرحُ يأخذ نصيبه الأكبر من اهتماماتي . 

لقد كان مخاض الكتابة المسرحيّة حدثاً غريباً ؛ ففي يوم من الأيام حاولت ُ كتابةَ شعرٍ ولم أنجح ، ثم جرّبْتُ كتابةَ قصةٍ ، ومقالةٍ .. والفشل يلازمني حتى استغلقت عليّ كل السبل .. فوجدتُ نفسي أتجه لكتابة مسرحيةٍ ؛ ظللتُ أكتبُ وأكتبُ فيها حتى الفجر وأسميتُ ذلك المولود البكر “يا رايح الوادي” وسلمتُها مباشرةً لجمعية الثقافة والفنون بالطائف ، وكان رئيس أنشطتها ذلك الوقت أ.فيصل اليامي ، وحين قرأها أعجبته فوراً وقال لي : هذه المسرحية جاهزة للتنفيذ ، وكانت المفاجأة أن العمل نُفّذ على خشبة المسرح ونجح نجاحاً كبيراً بل عُرِضَ بعد ذلك في 10 عروض متوالية ! 

كانت ورطتي الحقيقية بالمسرح ؛ حينما شعرتُ بالنجاح واللذة في مشاهدتي شخوص نصي وهي حيةٌ على خشبة المسرح تُسعدُ الناسَ بمشاهدتها ، وهذا ما جعلني دائماً أتوجه للكتابة في المُختلِف وأسعى للجديد المتميّز بعيداً النمطية ، فكتبتُ في المسرح الملحمي والعبَثي وغيره حتى تمكنتُ من جميع الأشكال المسرحية . 

ويبدو أن النجاح يقود للنجاح إلى أن تصل إلى منطقة معينة .. وهنا لا أنسى زملاءَ ساهموا معي في كل تلك النجاحات ؛ هم إخوتي في ورشة العمل المسرحي بالطائف ، الذين كانوا وما زالوا ينفّذونَ نُصُوصي وهم مُشبّعِينَ برُوحي وأنا مُشبّع برُوحهم ! 

في النهاية أنتَ لا تستطيع أن تصبح شيئاً دون قراءة ؛ فالقراءة هي التي تصنعك ، تصنعُ عوالِمَك ، فكلما قرأتَ كلما تفتّق ذهنُك نحو جهةٍ معينةٍ ، نحو فكرةٍ معينةٍ .. لقد كنّا نعمل هذه القراءة بالطائف في لقاءاتنا كمسرحيين ، ونتقاسمُ أوراق العمل لتجهييزها في الأسبوع التالي ؛ فنقرأ طيلة الأسبوع ، ونلتقي ونتناقش فيما قرأناه ، أو نجلبُ كتاباً جديداً عن المسرح من مصر مثلاً ، ثم نتقاسم فصولَه قراءةً وحواراً .. تلك القراءات والنقاشات هي التي صنعتْ فهد ردة .. ويقيني أنه لا يوجد إنسان ناجح في هذه الحياة لا يقرأ ..كلٌ له قراءته التي تصنع نجاحه .. فمن يريد النجاح والوصول لأهدافه لن يصل إلا من خلال كمٍّ من القراءة والاطلاع والمناقشة والسؤال والبحث ..” ا.هـ 

انتهت كلماتُ الأستاذ فهد وقد امتلأتْ أذهانُ المستمعين بالأسئلة الحائرة في ذلك الكاتب العصامي المثابِر مع فنٍ لم يملِك فيه فرصةَ التخصص عبر معاهِدَ للمسرح ، ولا فرصةَ التنفيذ عبر مسارِح كبيرة وحركة مسرحية تدفعُ للتنافُس ! كيف بدأ من الصفر وكوّن فرقته المسرحية وعبر المكان المتاحِ لممارسةِ شغف الكتابة والتمثيل حتى وصل إلى ذلك التتويج بالداخل والخارج ؟! 

الكل بات يُدركُ أهمية الفنون في الرقيّ بالمجتمع وخلق مساحات إنسانية سامية فيه ، والمسرح أبو تلك الفنون والأولى بتذليل كل العقبات لدينا لأخذ مساحتهِ المستحقة في بلدٍ زاخِر بالمبدعينَ كتابةً وإخراجاً وتمثيلاً ، يمكن لهم المنافسة بقوّة على مستوى العالم إن توفرتْ لهم البُنَى التحتية والمعرفية اللازمة للنجاح ، وهم مع ذلك مازالوا ينافسون ويحققون بعض النجاحات رغم كل شيء !  

نحن بالمملكة العربية السعودية نملكُ إرثاً ثقافياً وتاريخياً عريقاً ، ولدينا من العوامل والمعالم الحضارية ما يجعلنا نقودُ العالم ونؤثّرُ فيه حضارةً وفِكراً لو أردنا واستثمرنا تلك المكوّنات التي جعلها اللهُ في أرضٍ عامرة بالقداسة والطهر ، حيثُ تغتسلُ فيها أرواحُ الملايين وتتوجّهُ إليها وتجتمعُ في حجها ؛ لتعودَ محمّلةً بما رأتْ وشاهدتْ وعرفتْ في نقلٍ يتعدّى أبعادَه الدينية والاقتصادية إلى الثقافة والأخلاق التي ربّما نحن ما زلنا مقصّرينَ في تصديرها عبر ذلك المَعْبَر المُهم ! وصدَق الناقد الكبير السيد حسين بافقيه في تغريدته حين قال : “تستحق بيئة الحج إنتاجَ عمَلٍ دراميٍّ سعودي كبير ؛ الفن وحدهُ سبيلنا إلى تقديم أنفسِنا للعالم” . 

شكراً لعرّاب المسرح السعودي فهد ردة الحارثي على ذلك العطاء المتواصل وتلك المتعة التي صنعها لنا على خشبةِ المسرح عبر نصوصٍ تقطرُ إبداعاً .. كل ما نرجوه ونتمنّاه أن يُتوّجَ الإبداع الكتابي المسرحي دوماً بالتنفيذ على الخشبة ، وتذليل الصعاب في ذلك ؛ وعياً بأهمية هذا الفن ودوره في رقي المجتمع ، وعدم الاكتفاء بجزئية الكتابة فقط ؛ لأنها في النهاية تموتُ على الورق لا يُحييها إلا بعثُها من جديد أمام جمهور يتنفّسُها نجاح !   

 حسن محمد شعيب 

Shuaib2002@gmail.com 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com