الحج هو الرحلة التي ينتظرها الإنسان طوال حياته، وتتوق لها نفسه، ويظلّ يرسم لها في مخيلته آلاف الصور. إنها رحلة إلى بيت الله الحرام، مهوى الأفئدة، ومدرج النبوات، وحضن القرآن، الرحلة التي يغتسل فيها المسلم من ذنوبه وأوزاره ويعود كما ولدته أمه، ولو جمع ما قيل من شعر وأدب حول هذه الرحلة الروحيّة الجليلة لوقفنا على رؤى وأفكار ومشاعر لا حدود لها، تؤرخ لوعي الإنسان المسلم عبر التاريخ، وتكشف القيم المهيمنة على هذا الوعي .
يقول الشاعر بدوي الجبل في قصيدة تعدّ من أعذب القصائد التي كشف فيها الشاعر العربي عن عميق مشاعره، ودفين إحساسه تجاه هذه الأرض المباركة :
لثمت الثرى سعيًّا وكحّلت مقلتي
بحب كأسرار السماء مهيب
وأمسكت قلبي لا يطير إلى مني
بأعبائه من لهفة ووجيب
فيا مهجتي وادي الحبيب محمّد
خصيب الهدى، والزرع غير خصيب
هنا الكعبة الزهراء والوحي والشذى
هنا النور فأفني في هواه وذوبي
ويا مهجتي بين الحطيم وزمزم
تركت دموعي شافعًا لذنوبي
وفي الكعبة الزهراء زينت لوعتي
وعطر أبواب السماء نحيبي.
هذا الفناء الجميل الذي استدعى أن يلثم الشاعر الثرى، ويكحل أهدابه بالحب المهيب، ويجاهد قلبه كي لا يفرّ من بين أضلاعه شوقًا إلى مني، وهذا الشعور بخصوبة المعنى في وادٍ غير ذي زرع هو الذي يقلب المعادلة ويصنع واقعًا شعريًا مختلفًا حيث تكون الدموع شافعًا للذنوب، وتتجمّل اللوعة، ويعطر النحيب الصادق أبواب السماء.
يجتمع الناس على صعيد واحد، بلباس واحد، يدعون ربًّا واحدًا، في زمن واحد، ويرجمون عدوًا واحدًا في وحدانية عزّ نظيرها، وتمضي الأيام، وتقضى المطالب، وتستعدّ النفوس للرحيل، وهنا تكون أعظم اللحظات، وتسيل حكايات العشق :
ولمَّا قضينا مِنْ منىً كلَّ حاجةٍ
وشُدَّتْ على حُدْبِ المطايا رحالُنا
أخذْنا بأطرافِ الأحاديثِ بيننا
ومسَّحَ بالأركانِ مَنْ هُوَ ماسِحُ
و لم ينظرُ الغادي الذي هو رائحُ
وسالَتْ بأعناقِ المطيِّ الأباطحُ
وأطراف الأحاديث ستظلّ ممتدة، وحيّة في الذاكرة؛ لأنها تمتد بامتداد الحب والمخيلة والمستقبل غير المنظور، ستظلّ فكرًا سيّالًا يغذّي الروح بكل حق وخير وجمال .
د. صالح سعيد الزهراني