لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة بعد انتشار مقطع جاء في تصوير حى لأعمال توضيب واجهة الحجر الأسود المبارك، بأن الحجر الأسود لا وجود له اليوم سوى بضع قطع، أو بالأحرى ثمانٍ قطع صغيرة، يتم تضبيبها بين آونة وأخرى، وهى الباقية من الحجر، يقبلها الناس . ولعل هذه التفاهات من الأخبار التى تناقلها الناس وأيضًا بعض العلماء غير المهتمين بهذا الجانب من أخبار بيت الله المعظم، ناتج عن نظرة عابرة غير متفحصة ولا مستوعبة في بعض الكتب، ومنها كتاب العلّامة المكي المتبصر الشيخ محمد طاهر كردي -رحمة الله عليه- وجعل مثواه الجنة وجزاه عن أمة سيدنا محمد خير الجزاء. والبعض ذكر لي أنه أخذ المعلومة من الدكتور زغلول النجار -حفظه الله-. وعليه أقول بيانًا للحقيقة التاريخية والواقعية، وتوثيقًا لهذا الأمر المهم: إن الحجر الأسود المبارك حجر متوسط الحجم، طوله وعرضه تقريبًا ذراع في ذراع، أي بحدود خمسين في خمسين سنتيمتر تقريبًا، وهناك روايات أخرى تفيد بأن حجمه أكبر من ذلك، كما قال الإمام أبو الوليد الأزرقي في تاريخه: وطول الركن ذراعان، قد أخذ عرض جدار الكعبة، ومؤخر الركن داخله في الجدر، مضرس على ثلاثة رؤوس. وقال: قال ابن جريج: فسمعت من يصف لون مؤخره الذي في الجدار، قال بعضهم: هو مورد، وقال بعضهم: هو أبيض انتهى .
والحجر الأسود ياقوتة من يواقيت الجنة، نزل به سيدنا وأبونا آدم صلوات الله عليه من الجنة حينما أهبط إلى الأرض ومعه المقام مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام. وكان يضيء مثل الكوكب الدري، وله شعاع عجيب يملأ الكون، وكان أشد بياضًا من الثلج، فما سوّدت ظاهره إلا خطايا بنى آدم وأرجاس المشركين في الجاهلية. وهو اليوم بكامله موجود ومثبت في جدار الكعبة المشرفة ضمن ركنه العظيم، وهو كتلة واحدة، وليس هو عبارة عن قطع متناثرة، ولا جزيئات متعددة كما يظنه أو يتوهمه الناس. والمستلم للحجر المبارك يستلم الحجر نفسه ويقبله، وهو واقع وباقٍ خلف هذا الإطار الفضي اللاصق به وبجدار الكعبة .
ومن زعم أنه لم يبقَ منه إلا ثمانٍ قطع فهو مخطئ خطأً فادحًا بحق هذه الآية الطاهرة المباركة، وهو جاهل بالتاريخ المكي الجليل؛ حيث لم يثبت تاريخيًّا ولا علميًّا: أن أصل الحجر الأسود اقتلع من موضعه مرة أخرى بعد حادثة القرمطي سنة 317 للهجرة الشريفة. فإن أحدًا من المؤرخين المكيين، ولا من غيرهم لم يقل بأن الحجر الأسود قد أزيل من مكانه مرة أخرى خلال الألف سنة الماضية، أو تم تفتيته، أو تقطيعه، أو خلعه ولم يثبت ذلك مطلقًا. وما ذهب إليه البعض ممن ليس له علم ولا اطلاع على حقيقة الحجر الأسود في تأكيد بقاء ثمانٍ قطع منه فقط، فكلام عار عن الصحة. وإن كان الذى قاله الدكتور زغلول النجار -حفظه الله- كما نقله لي بعض الإخوة؛ لأن الدكتور زغلول ليس متخصصًا في علم تاريخ الكعبة المشرفة، وإنما قد يكون نقل ذلك عن بعض القاصرين في العلم في هذا الباب إن صح نسبة القول إليه.
نعم إن الحجر الأسود المبارك قد تعرض للسرقة سنة 317 للهجرة، واقتلع من موضعه، وغيّب عن البيت الحرام اثنتين وعشرين سنة، وحمل على عدة جمال، قيل: ثلاثة، وقيل: أربعون، لثقل الوزن الذى ظهر عليه في حينها وذلك معجزة من الله تعالى، ولقى عدو الله حمدان القرمطي في نقله إلى بلده الأحساء مشقة كبيرة، وقصته مشهورة ومعلومة ومقززة لعنه الله.
ولكن الملعون مع هذا لم يتعرض له بسوء ما بقى عنده، بل غلفه وضببه بالفضة، وصانه في صندوق محكم. ثم جرى استرداده بعد اثنتين وعشرين سنة من السرقة فى خلافة أمير المؤمنين الطائع لله العباسي، ورد إلى موضعه من الكعبة المشرفة، ولقد جرى قبل استلامه من القرامطة اختبارًا له شرعيًّا بمعرفة أحد كبار العلماء وهو العلّامة الشيخ عبد الله بن عكيم كما رواها العلّامة الشيخ أحمد بن محمد الأسدي في تاريخه إخبار الكرام بأخبار المسجد الحرام : هل الحجر المهيأ للتسليم هو الحجر الأسود بعينه، أم جرى استبداله ؟ فكان من خواص الحجر الأسود أنه لا يسخن بالنار، ولا يغوص في الماء. فسبحان من علم هذه المعرفة ذلك الإمام الجليل، فعند ذلك تم عرض حجرين قبله على النار فسخن وتشقق، وغطسا في الماء فلم يطفو، فقيل إنه ليس الحجر الأسود، فجيء بالحجر المبارك، وعرض على النار فلم يسخن، وغطس في الماء فطفا، وعند ذلك جرى استلامه من القرامطة في أخبار لسنا بصدد تفاصيلها. وفى استعادته نقل على جمل هزيل واحد فحمله ولم يشق عليه كرامة من الله تعالى ، واعيد الى مكانه فى الكعبة المشرفة ، ولم يحصل له بعد ذلك اي سرقة ، ولا خلع من موقعه ولا يزال حتى اليوم والحمد لله .
د. السيد ضياء محمد عطار
عضو رابطة الأدب الإسلامى العالمية