رؤية/ ناصر بن محمد العُمري
محمد خضر اسم شعري مختلف يسجل حضوره كرمز شعري طليعي يؤمن بالنثر، وينسج قصيدة نثرية قادرة على أن تنشب مخالبها في قصيدة التفعيلة الهزيلة بتعبير (سركون بولص)، الشعر الحق عند “خضر” يأتي على طريقة أدونيس ( شعر يقتل آباؤه الرمزين)، وهذا مايجسده نتاجه الشعري الذي يأتي إفرازًا لوعي طبيعي ومخالف. “خضر” يقود قاطرة فعل شعري مختلف قوامه قصيدة تستمد عالمها من اللحظة الشعرية الطازجة (أريد أن أعود .. إلى أول مرة اكتشفت فيها الفرق بين الأفلام والحياة!) … ديوان منذ أول تفاحة.
أيديولوجية خضر غير المعلنة تكشف عنها قصائده التي تؤمن بالمساواة؛ حيث لا موضوع فاضل وآخر وضيع لذا قد تجد قصيدته مستغرقة في الدهشة بخشوع تأملي تهتم بفراشة ضلت طريقها نحو المطبخ أو صورة قديمة جدا التقطت في أواخر السبعينيات يعلوها الغبار أو لحظة علاقة حديثة بين جمجته والعقاب الجديد الذي للتو اقتناه؛ لينطلق منها نحو قصيدة متوهجة نابضة بالحيوية مملوءة برؤيته للحياة والناس والذكريات والواقع، ويجعل من اللحظة الفاترة عند غيره لحظة مشتعلة بالشعرية.
الشعور المتفاقم بكسر القيد يبدو جليًّا في منجزه الذي يصرُّ على تسميته بالنصوص. . ولا أدل على ذلك من هذه الصرخة التي ختم بها قصيدة الوراثة (الحكمة الواقفة الآن مثل صنم ضخم على بوابة الحياة ) في كل تكوين شعري عند خضر وعلى امتداد منجزه تلمس إنك أمام شاعر يرنو إلى إنتاج خطاب طليعي يترجم الشعور بخيبة الأمل أحيانًا، وممتلئ بروح التمرد لشاعر يملك مفهومًا مختلفًا عن الشعر وتعريف الشعر فالوقائع اليومية عنده هي التي تصنع عنقاء الشعر .
شاعر رموزه الشعرية لاتأتي من عوالم متعالية متقاطعًا مع رؤية بارت التي تقول: (بأن اليومي يذهب إسطوريًّا بطريقة تناولنا له) رغم كونه يصر على أن يلج لعالم الشعر من الباب الضيق والباب الصعب؛ فهو لايخطب ود الجماهير التي تؤمن بقصيدة تقليدية والقصيدة الشعبية فما يكتبه خضر رغم فرادته يصعب أن يتحول شعرًا جماهيريًّا تهتف به الجموع وتستعذبه؛ لأنه ذهب بعيدًا عن ذائقة تنغمس في التقليدية، واتجه نحو كسر السائد بكتابة قصيدة تعبر عن رؤية مختلفة قصيدة لها تفاصيلها الخاصة.
يحدث هذا رغم أنه شاعر مملوء بالتراث والشعر العمودي، ويستمتع به ويقرأه بنهم لكنه يذهب نحو كتابة نصوص طليعية متجاوزة على نحو يروق لتجربته المشاغبة، ويروي ظمأ التمرد الذي يسكن الشاعر الحداثي المتشرب لقيم حداثوية بعمق.
في بعض شعره نلمس نفسًا طويلًا محكمًا لاعتماده على آليات سردية حكائية يربط بين الجزئيات الصغيرة والوحدات التي تكون بناء التكوينات الشعرية والجمل الشعرية؛ مستنجدًا بتقنيات الفن التشكيلي وفنون السينما والاستريت آرت فأكثر قصائده تحمل نفسًا سينمائيًا وتبدو كمقاطع من مشاهد أو لقطات من فيلم ومع هذا فالإحكام الدرامي في قصيدته عاليًا جدًا، ولكنه يجيد أيضًا كتابة ومضات شعرية قصيرة مشحونة بالذاتي. علاقة الذات بالمكان إشكالية كبرى حيث الذات في حالة فرار وبحث مستمر عن المفقود والغائب(نهرب من ذواتنا الآن نحو تفاصيل الثياب القديمة ورائحة البخور البلدي) ولاتخلو نصوصه من حديث واسع عن عبثية القدر فيما الزمن يحكم قبضته على الذات، وهذا ينتج حوارًا منولوجيًا تبدو فيه الذات تتحدث عن ذاتها مع ذاتها دون توقف، وتظهر في حالة من الانشطار دون أن تكف عن التحديق في مراياها لتستخرج حالة الاضطراب والهذيان التي تعبر عن لامنطقية العالم والكون. الرحيل مع الغياب يبرز قدرته كشاعر على اقتناص معنى مختلف وملذوذ؛ حيث يقول في إحدى قصائده :
(ليتني أخبرتُ أمي أنني شمعدان وأن الأرض مظلمة
وأغادر في الشمعدان المضاء وأقرأ وجهي مرارًا سأحلب عصفورتي)
لعل هذا المقطع يختصر الكثير من ملامح شاعريته، ويبرز حالة مستمرة من بحث الذوات عن آخرها الغائب والمفقود الذي يمثل ثيمة في شعره، وحين تشعر الذات بفقدان الآخر الذي هو في حالة غياب ويذهب الشاعر باتجاه البحث عنه تنتج قصيدة أبرز ملامحها أن وظيفة اللغة الجمالية, والرؤية للأشياء فيها تأتي بعيدًا عن لغة المدرسي واللغة المحنطة والسائدة، لغة قادرة على أن تضيف توهجًا للغة، قصيدة تستطيع الدخول بنا في علائق جديدة بين المفردات والمعاني والتراكيب التي لاتنقصها الدهشة. قصيدة تضعنا إزاء شاعر يبحث عن مساره الخاص، وتكشف عن مبدع يعبد طريقه الذي يسلكه وحيدا ميمما نحو مرابع الجمال؛ انطلاقًا من كون الشاعر المعاصر لم يعد يستهويه أن يكون مكررًا أو متشابهًا مع تجربة شعرية أو إبداعية أخرى؛ فيذهب نحو اختيار تعبيرية مختلفة؛ لذا نجد قصائده متقاطعة مع ماحولنا فهي تمتليء بالمفردات الأجنبية ومسميات الأشياء وما يفضله إنسان اليوم معللًا ذلك بوجود تلك الأشياء في حياتنا اليومية، ثم حاجة النص إليها قائمة فهو حينئذ لايجد حرجًا من استخدامها ومثل هذه التفاصيل الصغيرة وهذا التعاطي الدقيق هو مايميز شاعر عن آخر.
نفر من القراء والمهتمين – وأنا منهم – يشعرون بامتنان كبير للسان “محمد خضر” وتجربته التي وهبتنا رؤية جديدة تأسست على خلفية اقتناصات منحدرة من أعالي وعي شاهق، وعي لاتنقصه الشقاوة لمبدع ينصت إلى مفردات نافرة كغزال رشيق آتٍ من بعيد. مفردات تحمل صهيل لغات وقشعريرة أفئدة وارتعاشات أجساد يتمنى لو أن يتمكن منها؛ ليصنع منها نصًا شعريًّا فاتنًا.