همسات الخميس
أرهقتني مكينة الإعلام الفاسد منذ نعومة مسامعي، وفي كل دورة من دورات ذلك الإعلام البائس كان ينتهي به الحال إلى الفشل فينكشف عواره ويفضحه الله فضيحة اللحم في دكان الجزار، ومع ذلك فإن الشقي القابع في داخلي لا يتوب، ما يلبث أن يعود ثانية للاستماع ليهوي به مرة أخرى في مهاوي التوتر والقلق قبل أن يهوي هو وأهله في مهاوي الإخفاق.
في بداية اهتمامي بما حولي كان المد الراديكالي يستعر من حولنا، وكان الانقلاب على امام اليمن على مرمى حصاة من قريتي وكان البوق الشهير المرحوم أحمد سعيد يقول عبر إذاعة صوت العرب القاهرية: أبطال اليمن في طريقهم الان إلى الرياض، وطريق الرياض كما فهمت يمر من قريتي الوادعة، فكنت والخوف يملأ جوانحي انتظر رصاص السلال والمجمهرين ينهمر علينا من ريع الخيالة (مرتفعات أراها من باب بيتي).
كان مذيع صوت العرب مخيفا، يتعمد إخافة مستمعيه، وما أن يقول: صوت العرب من القاهرة حتى يدق طبل التخويف نشيده العتيد: اللهُ أكْبرْ، بُمْ، بُمْ. اللهُ أكْبرْ، بُمْ، بُمْ. يا هـذه الدنيا أطلّي واسـمعي إإي، إإي. كيد الأعادي قاء يبغي مصرعي إإي، إإي. ألله أكبر، بُمْ، بُم. ألله أكبر، بُمْ، بُم، فأما (بُم، بُم) هذه أسعدك الله قارئي العزيز فإنها صوت الطبل في ذلك النشيد، بينما إإي يا عزيزي ماهي إلا صوت الترمبيت في النشيد نفسه.
تصالح اليمانيون بعدئذ وتتابعت الكراسي، كرسيٌ ينطح كرسياً، ثم آل الأمر إلى الإمام المجمهر (المخلوع حاليا) الأخ علي عبدالله صالح، ثم تطور الحال على النحو الذي نراه الآن، أما نشيد بمُ، بُم فإنه بعد خروج اليمن من عهدة صوت العرب تحول ليبث فينا روح الحماس خلال حرب يونيو 1967، كنت حينها في دكان أبي في شارع البرسيم بالطائف وكان راديو أبي يبث بلاغات الحرب، كانت اذاعات العرب كلها في إذاعة صوت العرب، وتتابعت بيانات أحمد سعيد التي تعدد خسائر العدو من الطائرات والدبابات والبوارج، واختص بيان منها بوعد من السيدة أم كلثوم بأن تكون حفلتها القادمة في تل أبيب بعد تحريرها، وبطبيعة الحال كانت (بُم، بُم )حاضرة، تفصل بين كل بيان وبيان.
انتهت الحرب وبكى الرئيس وسكت نشيد (بُم، بُم)، فقد بات عدونا على مرمى عصا من القاهرة، وباتت سيناء والجولان والقدس (جوهرة المدائن) في قبضته فدخل نشيد (بُم، بُم) مرحلة إحباط مريرة واعتزل الحياة والناس إلى أن قيّض له محسنا كبيرا هو الأخ معمّر القذافي الذي انتشله فأعاد له ثقته بنفسه بل جعل منه نشيدا وطنيا لبلاده وبقي كذلك إلى من مات العقيد مخوزقا عفا الله عنه، وعندما رأيت الخازوق رأي العين على شاشات التلفزيون أدركت أخيرا أن نشيد (بُم، بُم) ما هو إلا أيقونة خيبة لا غير.
محمد ربيع الغامدي