الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
حاولت في هذا العرض ترجمة بعض ما جاء في كتاب “الإمبراطورية البريطانية والحج 1865-1956م” وتلخيصه وعرضه، والذي ألّفه صاحبه الدكتور جون سلايت، المدرس والباحث الزميل في كلية سانت جونز بجامعة كامبريدج البريطانية. ويقع الكتاب في (456) صفحة من القطع المتوسط. وطبع في جامعة هارفارد الأمريكية عام 2015م، ويحمل الترقيم الدولي (ISBN 978-0-674-50478-3).
إنه لمن المعلوم تاريخيًّا أن نطاق السيادة البريطانية توسع في عهد الاستعمار، بعد ما امتدّ حكمها المباشر أو غير المباشر إلى نحو نصف البلدان العربية والإسلامية في المنطقة الواقعة ما بين غرب إفريقيا وجنوب شرق آسيا. وتمكنت إدارتها من الإحاطة بجميع السلطات في هذه المناطق المستعمرة.
وكان من صالح السياسة البريطانية أن تراعي مشاعر رعاياها المسلمين وغير المسلمين على السواء في هذه المناطق الاستعمارية. (راجع ص2-3-317) ومن أهم الفرائض الدينية الإسلامية التي اضطرت الإدارة البريطانية إلى التدخل المباشر فيها ومعالجتها، فريضة الحج عند المسلمين. وهذا هو الأمر الذي دفع كلاً من المستشرق دافيد صمويل مرجليوث المتوفى 1359هـ/1940م، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل المتوفى 1385هـ/1965م إلى القول بأن الدولة البريطانية أكبر وأعظم قوة إسلامية في العالم”.
ولا ريب أنه كان هنالك العديد من الأسباب التي جعلت كلاً من المستشرق مرغليوث و تشرشل يتلفظان بقولهما هذا، واعتبارهما الدولة البريطانية كـ”قوة عظمى للمسلمين”.
أولًا: لأن الدولة البريطانية في وقت ذروتها حكمت جزءًا كبيرًا من العالم العربي والإسلامي يمتد إلى آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، ثانيًّا: كانت الدولة البريطانية تحكم على أكثر من نصف السكان المسلمين في العالم، وبالتالي أصبح الإسلام الدين الأكثر المتبع وعلى نطاق واسع داخل سيادة الإمبراطورية البريطانية إبان تلك الفترة التاريخية. ثالثًا، لم يكن من صالح السياسة البريطانية أن تظهر عدوانها، إن كان يوجد، حيال الإسلام والمسلمين، وتمنع المسلمين من ممارسة شعائرهم الدينية والعقدية، وحقيقة تفيد المصادر والوثائق بالذات أن الإدارة البريطانية كانت تمنع نفسها عن التدخل في المعتقدات الدينية والاجتماعية وممارستها من قبل السكان الأصليين المقيمين في المستعمرات البريطانية، ومنهم المسلمون بالدرجة الأولى.
ومن هنا وانطلاقًا من هذه الرؤية كان لا بد من أن تختار الإدارة البريطانية السياسة التي تتلاءم مع مشاعر المسلمين الدينية، لا سيما قضية أداء فريضة الحج كل عام، والقيام بترتيب الأمور اللازمة لرحلات المسلمين المقيمين في المستعمرات البريطانية إلى الحرمين الشريفين، وتقديم الدعم لتكلفة الحج، وتوفير جميع التسهيلات للحجاج في أثناء السفر وفي أثناء وجودهم في الحرمين الشريفين. (راجع ص308).
وفي الواقع كانت لهذه السياسة الإيجابية أبعاد سياسية واقتصادية، حيث إن الحكومة البريطانية كانت تستفيد من رحلات الحج إلى الحرمين الشريفين الملايين من الروپيات سواء في الهند أو في المناطق الاستعمارية الأخرى، ومن هنا قام المسؤولون البريطانيون بدور كبير في تسهيل الشؤون الخاصة للحج السنوي إلى الحجاز على الرغم من وجود التحديات السياسية والديموغرافية والجغرافية واللوجيستية إبان تلك الفترة. ولكي تستفيد الإدارة البريطانية من جمع الأموال وأخذ العمولات سمحت لشركة السفريات “توماس كوك” البريطانية، ومنحت لها عقدًا تقوم بموجبه بتنظيم رحلات للحجيج من الهند إلى الحجاز من ميناء بومباي إلى مدينة جدة والعكس. إذن لم تكن لتقدم السلطات البريطانية مثل هذه التسهيلات الإدارية والطبية إلخ… للحجاج الهنود دون مقابل، إنما كان الغرض الحقيقي يكمن في تحقيق المصالح السياسية والاقتصادية.
وفي هذا الكتاب ركز صاحبه على الاهتمام بمعالجة العلاقات والتفاعل الموجود بين المسؤولين في السلطات البريطانية والمسلمين المسافرين إلى الحرمين الشريفين لأداء مناسك الحج. والإطار الزمني الذي يتناوله هذا الكتاب يحيط بعصر الإمبراطورية البريطانية الحقيقي أي منذ عام 1282هـ/1865م أي بعد سقوط الدولة المغولية إثر فشل الثورة العامة في عام 1274هـ/1857م إلى عام 1375هـ/1956م أي بعد استقلال الهند في عام 1367هـ/1948م. وهذا الأمر أيضًا يكشف العمق والطابع الاستثنائي لهذه الدراسة القيمة، بحيث إنه خلافًا لغيرها من المؤلفات في الموضوع نفسه والتي عادة ما تنتهي دراساتهم للعلاقة البريطانية مع الحج إلى عام 1342هـ/1924م، حاول باحث هذا الكتاب استيعاب الموضوع نفسه حتى عام 1375هـ/1956م، والذي يقدم صورة واضحة تشتد الحاجة إليها حول فترة ما بعد انهيار النظام الهاشمي في مكة المكرمة وقيام الدولة السعودية بيد الملك عبد العزيز المتوفى 1373هـ/1953م. وهذا واضح خاصة فيما يتعلق بالتحول المعقد في السياسة البريطانية تجاه عدم التدخل في شؤون الحج والعمرة؛ وذلك للتكيف مع الإدارة والوفاق بين الطرفين على وجه التحديد؛ لأن الأخيرة سادت على جميع الأماكن المقدسة في الحرمين الشريفين في رعاية الملك عبد العزيز آنذاك.(راجع ص264).
وفي الواقع ما كان يمكن لصاحب الكتاب أن يدرس قضية وجود التعامل بين السلطة البريطانية والحجاج لولا اعتماده الرئيس على الوثائق الأرشيفية المحفوظة في الهند ولندن بدور الوثائق. لأن المصادر الأرشيفية وحدها، بالإضافة إلى المصادر والمراجع الأخرى طبعًا، جعلت هذا الكتاب دراسة قيمة ومهمة للغاية. وقد تمكن صاحبه من فك المواد الأرشيفية وتوظيفها في إطار سليم وهو الأمر الذي ساعده على وضع العديد من نقاط القوة فيه لا سيما الإطار المفاهيمي المبتكر لتخطيط الموضوعات ومعالجتها وتقييم المواد التاريخية وتوظيفها توظيفًا شاملًا.
وعلى حد تعبير مؤلف الكتاب “لا شك أن الحج فريضة وفي نفس الوقت هو حركة واسعة النطاق والتي تشمل جميع الناس عبر التاريخ لتحقيق الأهداف المشتركة. وإن الفترة التاريخية التي يغطيها هذا الكتاب تتعلق بنسبة كبيرة من الحجاج الوافدين إلى الحجاز من الأراضي الواقعة تحت الحكم البريطاني”.
وطبقًا لكلام صاحب الكتاب لقد أصبحت مسألة الحج وموضوع الحجاج موضع اهتمام كبير لدى القوى الإمبريالية البريطانية. وصارت للسلطات البريطانية مشاركة فعلية فيما يتعلق بالحج والحجاج مما أدى إلى خلق ميزة للسلطات الاستعمارية في جميع أنحاء إفريقيا ودول آسيا لا سيما شبه القارة الهندية…وقد وفرت عملية توسيع نطاق التورط البريطاني العميق في مسألة الحج إبان تلك الفترة، فرصة جيدة لتقوية الكيان السياسي والإداري والتنظيمي والديني بشكل ملموس في جميع مستعمراتها الخاصة بالمسلمين. ولا شك أن هذه الرؤية المفاهيمية أو القاعدة الفكرية للإمبراطورية البريطانية تقدم إطارًا جديدًا قيمًا لدراسة التفاعلات بين الأنجلو مسلم في عهد الاستعمار البريطاني ومن أجل إعادة النظر في طبيعة تجربة بريطانيا الإمبريالية.” (ص2).
وكان عشرات الألوف من المسلمين، رجالًا ونساءً يتدفقون ويتجشمون عناء السفر للمشاركة في الحج من جميع المناطق العربية والإسلامية في الشرق الأوسط وآسيا ودول إفريقية، بغض النظر عن خلفيتهم العرقية والثقافية واللغوية والاجتماعية والاقتصادية، ويفدون إلى الحرمين الشريفين من أجل أداء فريضة جماعية، ومن هنا فإن مثل هذه الحركة الكبيرة من الناس في كثير من الأحيان كانت تتطلب من السلطات البريطانية الإسهام وذلك بشكل مكثف في إدارة الشؤون الخاصة بالحج والحجاج.
وحاول صاحب الكتاب اكتشاف هذه اللحظة التاريخية للحج والحجاج والتي، طبقًا لقوله، أهملتها إلى حد كبير الكتب المتأخرة والمؤلفة حديثًا. وقد فعل ذلك عن طريق تتبع الأحداث ومشاركة السلطات البريطانية في تنظيم رحلات للحجاج وترتيبها وتقديم جميع التسهيلات الممكنة لقيام الحجاج بأداء مناسك الحج، وذلك منذ أوائل العام 1272هـ/1860م إلى أن حدثت أزمة السويس في عام 1375هـ/1956م. وعند معالجة الأحداث والوقائع التاريخية المتعلقة بالحج والحجاج تناول صاحب الكتاب التراجم لكثير من الشخصيات الإسلامية وغير الإسلامية البارزة ومغامراتهم في رحلاتهم إلى الحرمين الشريفين، ومنهم على سبيل المثال المستكشف الشهير ريتشارد بييرتون المتوفى في عام 1308هـ/1890م الذي سافر إلى الحرمين الشريفين متنكرًا في شكل طبيب، وكذلك توماس كوك المتوفى في عام 1309هـ/1892م، وتوماس إدوارد لورنس المتوفى في عام 1354هـ/1935م ضابط بريطاني معروف بـ”لورانس العرب” من بين الشخصيات الإنجليزية البارزة، وأسهب في الحديث عنهم معتبرًا مثل هذه النماذج غير الإسلامية، على أنهم فعلوا ذلك متأثرين بروح الإسلام وركنه المهم والأساسي وهو الحج الذي كان مصدر إلهام للشعب البريطاني على حد قوله. وبالإضافة إلى الشخصيات البريطانية ذكر صاحب الكتاب شخصيات إسلامية هندية، ومن أهمها بيگمات بهوپال أي نواب سكندرا بيگم المتوفاة في عام 1285هـ/1868م، ونواب سلطانة شاهجهان بيگم المتوفاة في عام 1319هـ/1901م.
بالإضافة إلى وضع خرائط الأماكن وصورها المعنية، قام بتدوين مقدمة أو ديباچة شاملة ومفيدة، وتناول المؤلف موضوع الكتاب وإطاره ومضامينه في مدخل مستقل، وذلك قبل انطلاقه إلى المرحلة الثانية في الفصل الثاني لاكتشاف تدخل السلطات البريطانية في شؤون الحج والحجاج لا سيما خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. أما في الفصل الثالث والرابع والخامس والسادس، فحاول إحاطة الوقائع الخاصة بالحج والحجاج وموقف السلطة البريطانية منهما خلال الفترة 1319-1357هـ/1901-1939م، أما خاتمة الكتاب فخصصها لدراسة دور السلطات البريطانية في الحج أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي الخاتمة نفسها تحدث بدقة عن عملية إنهاء الاستعمار البريطاني إلى أن حدثت أزمة السويس عام 1375هـ/1956م.
وخصص بعض الصفحات لتسطير أهم النتائج التي وصل إليها في كتابة رحلة الحج وشؤونها، ويرى أن تورط بريطانيا في مسائل الحج لا يزال باقيًا حتى يومنا هذا، وإن كان ذلك في سياق جغرافي سياسي مختلف تمامًا لتلك التي يتناولها هذا الكتاب. وقد أصاب في استنتاجاته قائلًا: إن اشتراك الإمبراطورية البريطانية الفعلي لفترة طويلة في شؤون الحج والحجاج لا ريب أنه كان حلقة استثنائية في تاريخ الإمبريالية البريطانية والتي كانت تكمن في التفاعل والتبادل المعقد في إطار مظاهر الدين والسياسة والاقتصاد المتغير والصراع والخصام وفي التعاون كذلك. ومما لا شك فيه أن قيام الإمبراطورية البريطانية بالحكم على المناطق الإسلامية والعربية والاشتراك الفعلي في المسائل الخاصة بالحج والحجاج كانت جزءًا لا يتجزأ من تجربتها”. (ص321)
ترجع أهمية الكتاب وقيمته العلمية إلى أنه أعده المؤلف معتمدًا على المواد الأرشيفية بالإضافة إلى المراجع الثانوية، ومن هنا فيحوي هذا الكتاب مادة غنية في الموضوع، ويحمل في طياته معلومات قيمة تناولها صاحبه بشكل رائع وجذاب مما يشد القراء إلى الاطلاع عليه، وتمكن المؤلف إلى حد كبير من إبراز أهمية الكتاب وبيان قيمته العلمية، وما فيه من جديد، ومكانته بين المؤلفات المماثلة. بينما تضع هذه الدراسة العميقة في الاعتبار أهمية التاريخ السياسي والثقافي والديني لمعالجة الحج وشؤونه ومفهوم إدارة عملية الحج بواسطة السلطات البريطانية، فإنها أيضًا تبحث عن فضاء خاص لتوفير فهم دقيق لتلك الإدارة الاستعمارية، لا سيما في حالة وجود هويات مختلفة معًا من الغرب والشرق والحاكم والمحكوم والاستعمار والمستعمر.
وقد خصص مائة صفحة كاملة لتدوين الملاحظات وقائمة المفردات والمصطلحات والكلمات وتوضيحها، بالإضافة إلى وضع قائمة المصادر والمراجع لا سيما للأرشيفات الوثائقية، وإن لم يضع فهارس عامة تفصيلية للإعلام والأماكن إلخ. وحتى مع ذلك، فإن هذا الكتاب يثبت بواسطة مضامينه بأنه مهم في بابه وفي مجاله. وأخيرًا فالكتاب جدير بالاهتمام والقراءة، ويشكل في مجمله إسهامًا كبيرًا ومتميزًا ومرجعًا مهمًا للمتخصصين والدارسين والباحثين، وليس له قيمة للوقت الحاضر فحسب، بل للمستقبل كذلك، بحيث إنه يفتح آفاقًا جديدة لمزيد من البحث والدراسة عن الحج والحرمين الشريفين بواسطة البحث عن الوثائق الخاصة بالموضوع والعثور عليها وتوظيفها في الأعمال البحثية والأكاديمية.
د. صاحب عالم الأعظمي الندوي
باحث أكاديمي من الهند