المقالات

المــآل والجذور

ماهو المآل ؟؟ وما المراد بقول الأصوليين:
“ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى” ؟؟؟ ..
الجواب :
المآل مصدر يعود جذوريا إلى الثلاثي (أ و ل)، وجاء فيه:

الأَوْلُ: الرجوع. آل الشيءُ يَؤُول أَولاً ومآلاً: رَجَع.
وأَوَّل إِليه الشيءَ: رَجَعَه.
وأُلْتُ عن الشيء: ارتددت.
وفي الحديث: من صام الدهر فلا صام ولا آل أَي لا رجع إِلى خير، والأَوْلُ لغة هو الرجوع. ويقال: طَبَخْت النبيذَ حتى آل إلى الثُّلُث أَو الرُّبع أَي رَجَع؛ وأَنشد الباهلي لهشام:

حتى إِذا أَمْعَرُوا صَفْقَيْ مَباءَتِهِم

وجَرَّد الخَطْبُ أَثْباجَ الجراثِيم

آلُوا الجِمَالَ هَرامِيلَ العِفاءِ بِها

على المَناكِبِ رَيْعٌ غَيْرُ مَجْلُوم

وأَوَّلَ الكلامَ وتَأَوَّله: دَبَّره وقدَّره، وأَوَّله وتَأَوَّله: فَسَّره. قلت: بل التأويل أوسع من التفسير، ولئن تناول التفسير بيان منطوق النصِّ فإنَّ التأويل يشمل منطوق النص ومفهومه، بل وما بين سطوره.
وأَوَّلته: صَيَّرته إِليه. وقال الجوهري: التأْويل تفسير ما يؤول إِليه الشيء، وقد أَوّلته تأْويلاً وتأَوّلته بمعنى؛ ومنه قول الأَعْشَى:

على أَنها كانت، تَأَوُّلُ حُبِّها

تَأَوُّلُ رِبْعِيِّ السِّقاب، فأَصْحَبا

قال أَبو عبيدة: تَأَوُّلُ حُبِّها أَي تفسيره ومرجعه أَي أَن حبها كان صغيراً في قلبه فلم يَزَلْ يثبت حتى أَصْحَب فصار قَديماً كهذا السَّقْب الصغير لم يزل يَشِبُّ حتى صار كبيراً مثل أُمه وصار له ابن يصحبه.
والتأْويل: عبارة الرؤيا.
وفي التنزيل العزيز: ((هذا تأْويل رؤياي من قبل)) سورة يوسف / .
وآل مالَه يَؤوله إِيالة إِذا أَصلحه وساسه.

أما عبارة الأصوليّين الآنفة،”ضرورة النظر في المآلات عند الفتوى” فالمقصود منها النظر فيما تؤول إليه الأفعال من مصالح ومفاسد، إذ العمل قد يكون في الأصل مشروعا، لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو يكون في الأصل ممنوعا، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة.
ولذلك ينبغي للناظر في النوازل و الواقعات ألا يتسرع بالفتيا إلا بعد النظر في مآلات الأفعال، فمن خصائص المجتهد الرباني الحكيم الراسخ في العلم الفقيه العامل ” أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات، وغيره لا ينظر في ذلك، ولا يبالي بالمآل “.
وقاعدة اعتبار المآل أصل من أصول الفقه جار على مقاصد الشريعة، دلت عليها الأدلة الشرعية والاستقراء التام ومن هذه الأدلة ما يلي:
أ ـ قوله تعالى ﴿ ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم )
فقد قال المشركون لرسول الله : لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن آلهتك فنزلت فسب الأوثان سبب في تخذيل المشركين وتوهين أمر الشرك وإذلال أهله، ولكن لما وجد له مآل آخر مراعاته أرجح – وهو سبهم الله تعالى- نهى عن هذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببا في مصلحة ومأذونا فيه لولا هذا المآل

ب ـ قوله لعائشة – رضي الله عنها- في شأن إعادة بناء الكعبة (( لولا أنَّ قومك حديثو عهدٍ بكفر لأسستُ البيت على قواعد إبراهيم ))، وذلك مخافة النّبي من أن يؤول الأمر إلى مفسدة أعظم، وهي إنكار العرب لهذا الفعل وتفسيره بأنه هدم للمقدسات و تغيير لمعالمها وبالتالي يجافون النّبي ويعادونه.

ج ـ ما جاء عن النّبي حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه (( أخاف أن يتحدث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه )).
فموجب القتل حاصل وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين والسعي في الإفساد فقتلهم درء لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر – وهو هذه التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام- أشد ضررا على الإسلام من بقائهم
إلى غير ذلك من النصوص المتواترة في اعتبار هذا الأصل.
وقد سار على قاعدة اعتبار المآل الأئمة الكبار في اجتهاداتهم وفتواهم:
ـ فهذا الإمام مالك- رحمه الله- ” أفتى الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم، فقال له: ” لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله “.
ـ وهذا عبد الله بن مغفل أتته امرأة فسألته عن امرأة فجرت فحبلت فلما ولدت قتلت
ولدها؟ فقال ابن مغفل: مالها؟ لها النار. فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين: ﴿ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } .
قال: فمسحت عينيها ثم انصرفت.
فهو بعد أن أجابها جوابا زاجرا شديدا لكي ترتدع وتتوب، رأى من حالها أن ذلك قد يدفعها إلى اليأس من رحمة الله، وهذا قد يؤول بها إلى الانتحار أو التمادي في الفجور، أو ما أشبه ذلك من المآلات السيئة فعدل عن جوابه الأول إلى جواب آخر أليق بحالها.

ـ وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لما مرَّ مع أصحابه في زمن التتــــــار بقومٍ يشربون الخمر أنكر عليهم أصحابه، فأنكر عليهم شيخ الإسلام وقال: دعوهم إنما حرَّم الله الخمرَ لأنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسَبْيِ الذرية وأخذ الأموال.
فموجب الإنكار حاصل: وهو شرب الخمر الذي يفسد العقول ولكن المآل الآخر وهو قتالهم المسلمين إذا صحوا من شرب الخمر أشد ضررا من شرب الخمر.

ويقرر الإمام الشّاطبي- رحمه الله- هذا الأصل فيقول في (الموافقات في أصـــــــول الشريعة): ” النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل…وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه صعب المذاق، محمود الغب جار على مقاصد الشريعة الغرّاء.

ويقول الشّاطبي في موضع آخر بعد أن يقرر أنه ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقا، وبعد أن يحكي عن الإمام مالك- رحمه الله – أنه كان يكــــــره الكلام فيما ليس تحته عمل يقول: ” فتنبّـــه إلى هذا المعنى وضابطــــه أنك تعرض مسألتك علــى الشريعة فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلهــــا بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدّ ذكرهــا إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلهــــــــا العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية “.

يقول الشّاطبي – رحمه الله – فعلى المفتي إذا أفتى أن يقدر عـواقب حكمه وفتـــواه وأن لا يعتبر أن مهمته منحصرة في إعطاء الحكم الشرعي، بل مهمته أن يفتي في النازلة وهو يستحضر المآل، والآثار المترتبة على فتواه فإن لم يفعل فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصر فيها.

—————————-حاشية:

*والأُيَّل الذَّكَر من الأَوعال، ويقال للذي يسمى بالفارسية كوزن، وكذلك الإِيَّل، بكسر الهمزة، قال ابن بري: هو الأَيِّل، بفتح الهمزة وكسر الياء، قال الخليل: وإِنما سمي أَيِّلاً لأَنه يَؤُول إِلى الجبال، والجمع إِيَّل وأُيَّل وأَيايل، والواحد أَيَّل مثل سَيِّد ومَيِّت..

وآلُ الرجل: أَهلُه وعيالُه، فإِما أَن تكون الأَلف منقلبة عن واو، وإِما أَن تكون بدلاً من الهاء، وتصغيره أُوَيْل وأُهَيْل، وقد يكون ذلك لِما لا يعقل؛ قال الفرزدق: نَجَوْتَ، ولم يَمْنُنْ عليك طَلاقَةً سِوَى رَبَّة التَّقْريبِ من آل أَعْوَجا والآل: آل النبي،صلى الله عليه وسلم. قال أَبو العباس أَحمد بن يحيى: اختلف الناس في الآل فقالت طائفة: آل النبي،صلى الله عليه وسلم، من اتبعه قرابة كانت أَو غير قرابة، وآله ذو قرابته مُتَّبعاً أَو غير مُتَّبع؛ وقالت طائفة: الآل والأَهل واحد، واحتجوا بأَن الآل إِذا صغر قيل أُهَيْل، فكأَن الهمزة هاء كقولهم هَنَرْتُ الثوب وأَنَرْته إِذا جعلت له عَلَماً؛ قال: وروى الفراء عن الكسائي في تصغير آل أُوَيْل؛ قال أَبو العباس: فقد زالت تلك العلة وصار الآل والأَهل أَصلين لمعنيين فيدخل في الصلاة كل من اتبع النبي،صلى الله عليه وسلم، قرابة كان أَو غير قرابة؛ وروى عن غيره أَنه سئل عن قول النبي،صلى الله عليه وسلم: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد: مَنْ آلُ محمد؟ فقال: قال قائل آله أَهله وأَزواجه كأَنه ذهب إِلى أَن الرجل تقول له أَلَكَ أَهْلٌ؟ فيقول: لا وإِنما يَعْنِي أَنه ليس له زوجة، قال: وهذا معنى يحتمله اللسان ولكنه معنى كلام لا يُعْرَف إِلاَّ أَن يكون له سبب كلام يدل عليه، وذلك أَن يقال للرجل: تزوَّجتَ؟ فيقول: ما تأَهَّلت، فَيُعْرَف بأَول الكلام أَنه أَراد ما تزوجت، أَو يقول الرجل أَجنبت من أَهلي فيعرف أَن الجنابة إِنما تكون من الزوجة، فأَما أَن يبدأ الرجل فيقول أَهلي ببلد كذا فأَنا أَزور أَهلي وأَنا كريم الأَهْل، فإِنما يذهب الناس في هذا إِلى أَهل البيت، قال: وقال قائل آل محمد أَهل دين محمد، قال: ومن ذهب إِلى هذا أَشبه أَن يقول قال الله لنوح:( احمل فيها من كل زوجين اثنين وأَهلك)، وقال نوح: رب إِن ابني من أَهلي، فقال تبارك وتعالى: إِنه ليس من أَهلك، أَي ليس من أَهل دينك؛ قال: والذي يُذْهَب إِليه في معنى هذه الآية أَن معناه أَنه ليس من أَهلك الذين أَمرناك بحملهم معك، فإِن قال قائل: وما دل على ذلك؟ قيل قول الله تعالى: وأَهلك إِلا من سبق عليه القول، فأَعلمه أَنه أَمره بأَن يَحْمِل من أَهله من لم يسبق عليه القول من أَهل المعاصي، ثم بيّن ذلك فقال: إِنه عمل غير صالح، قال: وذهب ناس إِلى أَن آل محمد قرابته التي ينفرد بها دون غيرها من قرابته، وإِذا عُدَّ آل الرجل ولده الذين إِليه نَسَبُهم، ومن يُؤْويه بيته من زوجة أَو مملوك أَو مَوْلى أَو أَحد ضَمَّه عياله وكان هذا في بعض قرابته من قِبَل أَبيه دون قرابته من قِبَل أُمه، لم يجز أَن يستدل على ما أَراد الله من هذا ثم رسوله إِلا بسنَّة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما قال: إِن الصدقة لا تحل لمحمد وآل محمد دل على أَن آل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة وعُوِّضوا منها الخُمس، وهي صَلِيبة بني هاشم وبني المطلب، وهم الذين اصطفاهم الله من خلقه بعد نبيه، صلوات الله عليه وعليهم أَجمعين.
وفي الحديث: لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد؛ قال ابن الأَثير: واختلف في آل النبي، صلى الله عليه وسلم، الذين لا تحل الصدقة لهم، فالأَكثر على أَنهم أَهل بيته؛ قال الشافعي: دل هذا الحديث أَن آل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة وعوّضوا منها الخُمس، وقيل: آله أَصحابه ومن آمن به وهو في اللغة يقع على الجميع.وحاول بعض السفهاء ممن ينتسبون زورا للإسلام أن يخرجوا زوجات النبي من آل البيت بأخبارٍ وآثار لوّوا عنقها وحرّفوها، والله بريء منهم ورسوله.

د. محمد فتحي الحريري

باحث في شؤون اللغة والاسرة وعلم التربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى