المقالات

بين الشكّ و اليقين !

فيما يخص القلق كوسيلة من وسائل الإبداع في الشأن العلمي أو الفني أنحاز إلى القلق المعرفي ضد ما يسمى بالقلق الوجودي ؛فالقلق المعرفي بحث برتبة التفكّر و التدبّر معًا في فضاء كوني مفتوح للارتياد بكل ما يتاح من وسائل المعرفة ، أما القلق الوجودي فينصرف بدءا إلى سؤال الوجود الأكبر و هو سؤال لا معنى له بعد التسليم ، و التسليم هنا معناه الإسلام بمفهومه الواسع ، أي الدخول فطريا أو اكتسابا في يقين الدين الذي جاء به المرسلون عليهم السلام ، أما قبل التسليم فهو متاح كوسيلة للوصول و البحث عن الحقيقة الغائبة ، كما في حالة الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه ، و هو غير متاح كأداة فلسفية ؛ لأنه في هذه الحالة نكوص و شك اعتقادي في التصديق ، و لا ترجى من ورائه ثمرة سوى التلبيس و المخاطرة بيقين لا يسع المرء النكوص عنه تجريبا بعد قيام الحجة ، و لا تفسير له عندي فيمن هذه حاله سوى أنه ترف فكري أو خلط بين قلق المعرفة و قلق الوجود ، و فيما إذا تجاوزنا الترف الفكري إلى الخلط فالأمر هنا يتحوّل من البحث في كون مفتوح متاح للأسئلة المعرفية المنتجة إلى البحث في كون مغلق لا تنتج الأسئلة حوله سوى الحيرة و الضلال ، و لا يعكّر على هذا ما تنطوي عليه الفلسفة من عمق في الطرح و متعة في التلقي ، لأن كل من بحث في المجال الفلسفي إنما كان يبحث في فضاء الكون المنظور و هذا لا دخل له بحصول اليقين من عدمه ، بل على العكس فالبحث في الطبيعيات بدعم اليقين الغيبي يفتح آفاق المعرفة الكونية و يتجاوزها إلى ما وراء ذلك من العالم الشاسع الذي لا يعد العالم المشاهد بالنسبة له سوى ظلال ، و على هذا الأساس نلحظ أن حضارة العالم الإسلامي في السابق كانت رحبة و منتجة و هي في الوقت نفسه حضارة منفتحة على ما هو أبعد من الكون المنظور ، في حين نجد الحضارات الإلحادية مثلا برغم ما حققته على المستوى المادي إلا أنها حضارة تغلق الوجود على نفسه و الإنسان فيها مهدد بالانقراض ..

أقول هذا و في ذهني تحضر بعض الأطروحات النقدية التي تربط بين الإبداع و القلق الوجودي و تجعل من الحيرة و الشكّ مدخلا للتنظير للإبداع ، و قد انعكست هذه الرؤية على كثير من الشبان الراغبين في اللحاق بركب المبدعين فتم ، في تصوّرهم ، الربط بين الإبداع و الإلحاد ، و الإبداع و الشك الوجودي ، برغم أن الفنّ برمّته نظير الدين و هو في أساسه نزوع إلى عالم آخر يمثّل الحلم الملهم للمبدع ، و على هذا الأساس جاءت اللغة المجازية التي تربط بين عالمين ، عالم الحقيقة و عالم المجاز ، فهي في الفن القولي لغة و في الفن التشكيلي ألوان و ظلال و في الموسيقى نغم ، و هكذا يتم التعبير في عالم الفنّ بطريقة تنبىء عن فكرة الربط بين الشاهد و الغائب ، و في المسافة بينهما فضاء واسع من القلق المعرفي ، أي البحث الدؤوب عن الأسرار و الحقائق ، فإذا تجاوز الأمر إلى القلق الوجودي الذي يشكّ في إمكان وجود الطرف الآخر و عدم التسليم به فقد المجاز معناه و انغلق الكون في الرؤية و ضاق التصوّر و تلاشت لغة الفن التي هي جوهره و أداته على حدّ سواء .

سعود الصاعدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى