من أبرز ما ينتقد به الشعر الصوفي فنيّا أنه يحمل بذرة فنائه في فنائه بحسب التصور الصوفي ، و على هذا ؛ فتلاشي حضوره يكمن في الدهشة منه ؛ ذلك أن سبب فخامته المجازية هو ذاته سبب ضعفه فنيا ، لا من جهة التشكيل و الرؤية ، و إنما من جهة الأصالة و الفرادة ؛ فهو ضعيف كتجربة إنسانية فردانية تلامس الواقع الحياتي الخاص ،لأنّه من هذه الجهة غير أصيل و قد ينتج نسخا لا أقول متشابهة ،بل متماثلة و مضغوطة فيما يسمّى عرفانيًّا بالأنا العليا .
و قبل الوقوف على هذا الرأي لابد من الإشارة إلى أن الأنا ذات مستويات عدة ، الأنا الخطابية و الأنا الشاعرة و الأنا المجازية الكبرى . في المستوى الأول تأخذ الأنا بعدا واقعيا و هي ذاتها المضمرة في كل خطاب و التي من خلالها يتم الكشف عن الأنساق الثقافية ، أما الثانية فهي الأنا الشاعرة التي تحضر فقط في أي خطاب شعري أو أدبي من خلال المجاز عبر التقمّص أو عبر صيغة الضمير الإنساني الذي يتحدث عن تجربة الإنسان بصيغة الأنا الفردية الخاصة ، أما الثالثة فتلك الشائعة في الخطاب الشعري الصوفي فيما يسمّى بفكرة الفناء أو الحلول في الذات الإلهية بحسب التصور المجازي للتصوّف .
فنلحظ على هذا أن الخطاب الصوفي في أساس بنيته مجازي شعري ، بيد أنه خطاب كلّي يوحّد الذوات المختلفة في ذات واحدة ، و من هنا فالتجربة الصوفية شعريا متعالية على الواقع و الزمان و تستند على الحدس ، و الحدس هنا محاولة روحية لاستشفاف المستقبل عبر المجاز من طريق الفناء في الذات رمزيا ، غير أن ذلك ، إذا ما نظرنا إليه في فضاء النقد ، ينتج خطابا شعريا متماثلا و تجربة مجازية فخمة لكنها خالية من التجربة الحياتية للإنسان ، خالية من الواقع الحميم الذي يصهر الذات الإنسانية و ينتجها شعرا في تجربة فردية خاصة لا تشبه سوى صاحبها في تفاصيله و تقاسيمه و ملامحه ، و هنا تأتي الأنا الشاعرة في مستواها الشعري ، تلك التي تتقمّص الإنسان و تعبّر عنه من خلال الفرد ، لا من خلال الجماعة و لا الذات العليا ، و إنما من خلال الذات الإنسانية التي تعيش الواقع ثم تنقله على مستوى الشعر عبر الفضاء المجازي ، و المجاز في هذا المستوى أقلّ فخامةً لكنّه أكثر صدقا و عمقا ، و هو ، بحسب رأيي النقدي ، الأليق و الأنسب للخطاب الشعري و من خلاله يمكن إنتاج تجارب شعرية متجاوزة و مختلفة لا يشبه بعضها بعضا ، كما هي حياة الأفراد في التجربة الإنسانية لا تتشابه من جهة التفاصيل التي هي غرض الشعر ، و في الوقت نفسه تلتقي في مستواها العميق على مستوى الإنسان الكلي الرمزي . و غاية الشعر هنا أن يعبّر عن التجربة الإنسانية بصور مختلفة و وجوه متعددة و أفراد مختلفين لا أن ينصهروا في مجاز كلّي و ذات واحدة متعالين على الزمان و المكان كما في الشعر الصوفي ، و من هنا يظهر لمتأمّل هذا الشعر أنه مجرد تنويعات على تجربة شعرية واحدة بوجوه متماثلة طبق الأصل ، في حين أن مثل المتنبي قديما و البردوني حديثا ، على سبيل المثال لا الحصر ، يتحرك داخل فضاء التجربة الإنسانية الخاصة التي هي تجربة كل إنسان في مستواها العميق ، غير أنهما على مستوى الشعر تجربتان شعريتان مختلفتان .
بقي أن أختم هذه الرؤية بضرورة التفريق ،في هذا السياق ،بين حرارة التجربة و استعارتها ، و في هذا المقام أفرّق ، بحسب تصنيف الجابري ، بين من أساس تكوينه النظام العرفاني و من له نظام آخر بيانيٌّ أو برهانيٌّ ، حيث يبدو لي أن الشاعر الذي نشأ على النظام العرفاني المجازي تختلف تجربته ، في هذا الفضاء الشعري ، عمّن طرأ عليه هذا النظام لاحقا ، فالأول ينشأ المجاز من عقله الباطن و لذلك لا يبعد أن يعيش التجربة الإنسانية بكل حرارتها ضمن التجربة المجازية ، و سنلحظ لذلك نزولا بالمجاز الفخم إلى مستوى الواقع و حياة الناس ، كجاسم الصحيح نموذجا ، بما أنّه يفكّر من داخل منظومة عرفانية / الشيعة ، و المثال ليس للحصر .
في حين يمثّل النموذج الثاني الشاعر محمد أبو شرارة ، و هو برغم شاعريته و اقتداره على اللغة ، إلا أنّ تجربته الشعرية في جانبها الصوفي العرفاني ذات فخامة مجازية ، غير أنها تفتقد حرارة الواقع و التعبير عن التجربة الإنسانية الخاصة ، أقول هذا و ليس في ذهني التقليل من موهبة هذا الشاعر ، إنما هي رؤية بدت لي من خلال قراءته مرارا ضمن هذا النسق التعبيري الذي أرى أنه سيطمر تجربة شعرية جديرة بالامتياز ، و يمكن أن تكون أصدق و أعمق لو أنّها نزلت إلى ميدان الشعر ، حيث حياة الناس و مجازاتهم و فضاءاتهم الملأى بتفاصيل الفن .
لهذا و ذاك بدا لي هذا الرأي حول التجربة الصوفية ، أو العرفانية بشكل عام ، إذ يمكن القول إن الشعر الصوفي تجارب متماثلة غائبة في الذات الكبرى و لا وجود لها على أرض الواقع و لا على أرض الشعر ، إلا في نماذجها الأصيلة القليلة .
أخيرا .. هل يعني ذلك رداءة هذا النوع من الشعر ؟ بالطبع لا ، فحديثي هنا يتعلّق بتقويم جانب مهم حول أصالة الشعر و تعبيرها عن الفرد الخاص و تجربته الخاصة ، و من هذا المنظور أراه ضعيف فنيا باعتباره متناسخا ، أما الحكم عليه كنص مفرد في سياق فنّي دون النظر إلى أصالته و علاقته بالنشاط الإنساني ، فهو نص مجازي فاخر و له دهشةٌ عند التلقّي !
سعود الصاعدي