(١) انطلق في الأسبوع الماضي مؤتمر الأوقاف الإسلامية برعاية مستشار خادم الحرمين الشريفين الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، (٢) وحضور وزير العمل والشؤون الاجتماعية الدكتور مفرح بن سعد الحقباني رئيس الهيئة العامة للأوقاف، (٣) في بيت التِجارة والتُجار المكيين “الغرفة التجارية” في مكة المكرمة، في الفترة مابين 17-19 محرم 1438 للهجرة، (٤) وقد حظي المؤتمر بحضور عددٍ من وزراء الأوقاف من مختلف البلدان الإسلامية، وجمعٍ من علماء المملكة العربية السعودية ورجال الأعمال فيها، والمختصين وأصحاب التجارب الوقفية من الداخل والخارج، (٥) وكان المؤتمر جذوة من النشاط والتطلعات التي كان يحدوها معالي الدكتور مفرح الحقباني رئيس الهيئة ليوائم بين تطلعات الهيئة العامة للأوقاف ورؤية المملكة (٢٠٣٠)، بطموحٍ عالٍ وإرادة قويةٍ ترجمها الجهد الرائد الذي كان باديًا على عرض الدكتور سالم الديني وكيل الوزارة، وعلى عزيمة رئيس المؤتمر المهندس محمود العوضي.
(٦) وفي حقيقة الأمر أن المؤتمر كان مناسبة فريدة يلتقي فيها الشعور (العقل المدرك للواقع وتأثيراته بطريقة مباشرة) واللا شعور(العقل الباطن المحتوي على عناصر التكوين العقلي والنفسي الذي لايخضع لسيطرةٍ أو إدراك الوعي) في قاعة واحدة، (٧) غير أن اللا شعور تحدث بتأثيراتٍ خفيّة -كعادته- فاقت حصة رؤساء الجلسات في الحديث المسموع، وتجاوزت قوة تأثيره اللحظة الآنية، إلى توقعاتٍ مستقبلية -فيما يبدو لي- (٨) حيث أن المؤتمر جاء -من جانبه الحكومي- بعقلية التغيير والتحولات التنموية التي بدت واضحة في نداءات معالي الدكتور مفرح الحقباني رئيس الهيئة العامة للأوقاف، (٩) وكان معاليه يتحدث عن سياسات وتوجهات تنموية جديدة، ترتقي بالحياة المجتمعية بكافة جوانبها التنموية إلى حياة أفضل، تُستثمر بها ولها كل السلطات والمقدرات الوقفية، (١٠) من خلال تشريعاتٍ وتنظيماتٍ حديثةٍ ومتكاملةٍ، وبرؤيةٍ جديدة، (١١) في الوقت الذي كان يوغل فيه عددٌ من رؤساء الجلسات نحو تعميق الأساليب والآليات القديمة، من خلال رؤى تطويرية وتجديدية في ذات النطاق وبنفس العقلية والأفق، (١٢) لقد كان الشعور كالعادة واضحًا وشفافًا وجادًا في طرحه، وصادقاً في رؤيته ومنطلقاته، (١٣) وكان اللا شعور هو أيضًا ملتزمًا بعادته في صدق النوايا وشرعية المنطلقات، (١٤) وكان المكان حافلًا بالهيبة والوقار والجلال، رغم أن الشعور كان يفضل في حديثه أن يبين السلطة التشريعية والقانونية التي يحتكم إليها في تطلعاته ومنطلقاته، من خلال بيان المراسيم الملكية السامية التي بمقتضاها كان ميلاد الهيئة العامة للأوقاف، وما تشتمل عليه من تطلعاتٍ ورؤى فاضلة، (١٥) .
في الوقت الذي كان اللا شعور مندفعًا في منطقٍ دائري يكرر من خلاله الحجة والدليل بدل أن ينتقل بالحضور إلى اثبات واقعٍ تنمويٍ حضاريٍ يفرض نفسه من خلال التكامل والتشارك، (١٦) وهكذا كان الصوت الحقيقي في المؤتمر عبارة عن جدالٍ منطقي تختلط فيه كل اخلاط المنطق واعتباراته، كالسلطة التشريعية وشرعية السلطة ، والشعبية والجديد والقديم والمنشأ والتعميم والتحيز والتجريد والمطلق والنسبية، (١٧) وإن جاز لي أن أقرأ مستقبل المؤتمر من منظور اجتماعي (وليس من منظور شرعي أو إداري)، (١٨) فالحق الذي يجب أن نتحاور حوله بكل واقعية ومنطقية خارج إطارنا الفكري الذي يقييد مشاريعنا الوقفية والمجتمعية والتنموية، للحد الذي قعد بنا وبالأمة عن ريادة العالم والمكانة الأخلاقية، (١٩) وصارت فيه مداركنا وأحكامنا متحيزة للتصورات الضيقة، والمدارك الخاصة، بمساندة سلطةٍ موغلةٍ في تحيزاتها وتخيلاتها السابقة، (٢٠) فالسلطات الحكومية منحازة لسلطتها التشريعية ومقدار الشفافية، والحاجة التنموية، (٢١) ومشاريعنا الوقفية منحازة للسلطة الشرعية، والقناعات الشعبية، (٢٢) حتى أضحى النزاع بين السلطات المعول عليها في دفع عجلة التنمية والرفاه المجتمعي، تتعاكس فيما بينها تعاكسٍ منشأه اختلاف المعايير والمناظير، وليس تعاكسًا قائمًا بين حقٍ وباطل، (٢٣) فجاء المجتمعُ مقيدًا بقيود مؤسساته وأفراده السلطويين، قيود اجتماعية منشأها التعصب للرأي والعادة، وقيود نفسية منشأها تزكية الذات وحب التفرد، وقيود حضارية منشأها توهمات عقلية وفكرية تغذيها مثالية القيم والمفاهيم، (٢٤) والحقيقة ساكنة بين طرفين كليهما يدّعي الحق المطلق لطرفه، ويمحو نسبية الحق عن الآخر، تحت سلطةٍ يستحوذ عليها التعصب والجمود، وتقع في إطارٍ فكري ينفث اللا شعورُ في عُقَدِها آناء الليل وأطراف النهار، (٢٥) والذي أخشاه أن تظل توصيات المؤتمر الإسلامي للأوقاف تتردد بين الإرادة الحاضرة، والمخيلة الغائبة الغائرة، (٢٦) ليتمدد اللاشعور وتتضخّم معضلة الأوقاف الإسلامية، (٢٧) فتنتهي توصيات المؤتمر إلى الحيرة التفسيرية، (٢٨) وتظل مشاريعنا الوقفية كمن يمشي على حبلٍ ويتخيل في مخيلته السقوط، والجماهيرُ من حوله تصفق لما يبدو لها من قدرة وإرادة، (٢9) فتصدق عليه مخيلتُه ظنها بالسقوط فيسقط ! ، (٣٠) فيا أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة، مصالح الوقف أمانة بين أيديكم ، (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).
خالد بن سفير القرشي