تأملات
العفو والتسامح خصال الذين صبروا وأصحاب “الحظ” العظيم !!
كل الأديان السماوية تدعو أتباعها للتسامح مع من ظلمهم وأساء إليهم ، فقد ُروي عن المسيح عليه السلام قوله المشهور ( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ) ، بينما لاقى سيدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ُكفار قريش الأذى والظلم العظيم ، فقد شُجّ رأسه، وكُسرت رباعيته في غزوة أحد، فقيل له في هذا الحال العصيب : ألا تدعو على المشركين ؟؟
فما هو إلا أن تدفّقت رحمته ، وفاضت طبيعته العالية وسجيته الكريمة .. وبدل أن يدعو عليهم دعا لهم ، فكان مما قال عليه وآله الصلاة والسلام حينها ( اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون ) !! ، هذا مع الكفار المعاندين المقاتلين ، أما حاله في التسامح والعفو عن من آذاه وظلمه من المسلمين أعجب وأغرب : فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال :
( كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ، فجبذه بردائه جبذةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدة جبْدته، ثم قال: يا محمد (!!) مُرْ لي من مال الله الذي عندك ، فالتفتَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم ضحك، ثم أَمَرَ له بعطاء ) .
وقد أراد الرسول عليه وآله الصلاة والسلام أن يغرس طبيعة التسامح والعفو وسلامة الصدر في قلوب الصحابة الكرام فقال لهم وهو جالس معهم في المسجد ثلاث أيام متتالية ( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ) ، فيطلع عليهم في الثلاثة أيام رجل من الأنصار تنْطف لحيته ماءً من وضوئه معلَّق نعليه في يده الشمال ، فيلاحقه الصحابي الشاب عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنه ويطلب منه أن يستضيفه في بيته ثلاثة أيام دون أن ُيطلعه على السبب الحقيقي من هذا الطلب !!
وبعد أن بات معه ثلاث ليال، لم يره يقوم من الليل بشيء فقط لاحظ أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر فيسبغ الوضوء ، وكان لا يسمعه يقول إلا خيراً، فقال له : يا عبد الله سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات في ثلاث مجالس: ( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ قال: ما هو إلا ما رأيتَ، فانصرفتُ عنه، فلما وليتُ دعاني فقال :
(ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي غلاً لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خيرٍ أعطاه الله إياه ) . فقال حينها عبد الله بن عمرو ( هذه التي بلغتْ بك، وهي التي لا نطيق ) !!
وسلامة الصدر والتسامح والعفو عن من أساء أو أذنب في حقنا من صفات خيار الناس ، بينما شرار الناس هم العكس من ذلك كما جاء في الأثر أنهم ( الذين لا يقيلون عثرة ولا يقبلون معذرة ولا يغفرون ذنبا .. ) ، فإذا ُكنا نود أن نكون عند الله من خيار الناس وأفاضلهم ، فلابد من تنقية قلوبنا من كل غلّ أو شحناء تجاه أيّ أحد من العالمين حتى من أساء إلينا وظلمنا ..
وقد ُسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس أفضل؟؟ ، فقال ( كل مخموم القلب صدوق اللسان ) قالوا : صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال ( هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد .. ) .
ولقد سار العلماء الربانيون على هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وتلك الطريقة من الصفح والعفو وسلامة الصدر ، فهذا الإمام أحمد رحمه الله بعد ما أنهكته سياط الخليفة يقول ( أحللت المعتصم من ضربي ) ، وهذا ابن القيم يتكلم عن الإمام إبن تيمية رحمهما الله تعالى فيقول ( وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه ( !! ) ، ما رأيته يدعو على أحدٍ من أعدائه قطُّ ، وكان يدعو لهم ) .
وقال إبن القيم عن إبن تيمية ( .. جئت يومًا مبشّرًا له بموتِ أكبر أعداءه، وأشدّهم عداوةً وأذىً له ، فنهرني ، وتنكّر لي واسترجع . ثم قام من فوره إلى أهل بيته – أي ذلك الخصم الذي مات – فعزّاهم، وقال : ( أنا لكم مكانه ، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ) !!
ومما ُيروى عن أحد أئمة العصر الحديث في التسامح وسلامة الصدر على من آذاه وشتمه ما قيل أنَّ رجلاً من أهل الخرج سبَّ الشيخ الإمام ابن باز – رحمه الله تعالى – وأغلظ له في القول إبان توليه قضاء الخرج واشتهر ذلك الأمر في البلد، وما مضى وقت يسير إلا وخرج الشيخ إلى الحجِّ على عادته، فمات ذلك الرجل الذي شتمه أثناء سفر الشيخ إلى الحج ، فلمَّا قُدِّم الرجل ليُصلَّى عليه أبى إمام الجماعة أن يصلي عليه، وقال : هذا الذي سبَّ الشيخ وأغلظ له القول فلا أُصلِّي عليه ( !! ) ، فتقدَّم أحد الناس فصلَّى عليه. فلمَّا رجع الشيخ من الحج وسمع بالخبر عاتب الإمام جدًّا على فعله، ولم يرتضِ ما صنع ، ثم إنه سأل عن قبر الرجل، فأتاه فصلَّى عليه في المقبرة ثم دعا له.
ولاشك أن من ُمقتضيات الإمامة والقيادة أن يكون الإنسان متسامحاً ، كبير القلب وسليمه تجاه من أساء له ، فبهذه النفسية وحدها يسود الرؤساء والقياديين وليس بغلظتهم وتشددهم مع الناس ، وهذا بالضبط مابينه لنا المولى سبحانه وتعالى في قوله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ( فبما رحمةٍ من اللهِ لنتَ لهم ، ولو كنتَ فظَّاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا مِن حولك “فاعفُ عنهم” واستغفر لهم ) .
وكأني بالقرآن العظيم يدفعنا دفعاً نحو التسامح والعفو تجاه أعدائنا ومن ظلمنا ، فنراه يطلب منا أن ُنبادر بالعمل الحسن تجاه من يعادينا بدل العمل السيء نحوهم من ُدعاء وغيره ، ويطلب منا أن نصبر على هذا الُخلق السهل الممتنع لأننا بذلك سنكون من أصحاب الحظ العظيم في الدنيا وفي الآخرة ، فيقول عزوجل :
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌ حميم. وما يُلقَّاها إلا الذين صبروا وما يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم … ) .
ويقول تعالى في موقع آخر مادحاً صفوة الناس وخيارهم بأنهم لا يحملون غلاً وشحناء على المؤمنين ، بل هم الذين يبادرون في الدعاء لهم بالمغفرة ليشجعنا في الإقتداء بهم فيقول ( وَالذِّينَ جَآءُو مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَنَا اغفِر لَنَا وَلإخوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجعَل في قُلُوبِنَا غِلاً لِلّذِينَ ءَامَنُوا رَبَنَا إنّكَ رَءُوفٌ رّحِيم ) .
ورغم كل ماسبق من ترغيب وتحفيز وتشجيع على التسامح والعفو عن من أساء لنا وظلمنا ، فإن الدين الإسلامي المتوازن والواقعي ، المتفهم للنفس البشرية ومتطلباتها ، وضع مرتبة ثانية مفضولة ومرجوحة .. لكنها جائزة ومقبولة ، ولا حرج على من رغبت نفسه النزول لها عن مرتبة التفضيل الأولى وهي التسامح والعفو ، فعندما يجد الإنسان نفسه مظلوماً ، ولا سبيل لرفع الظلم أو الإساءة عنه إلا بالدعاء على من ظلمه ، فإنه سيلقى الله عزوجل قريباً منه لا يخذله أبداً … كيف لا وهو القائل سبحانه وتعالى في الحديث القدسي ( ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، فلا تظالموا .. ) ، وكيف لا يستجيب سبحانه وتعالى لمن رفع يده طالباً رفع الظلم عنه ممن ظلمه وهو قد بيّن لنا في شرعه العظيم أنّ :
( دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب . وأن الله يرفعها فوق الغمام ، ويقول : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين . ) .
وقد شَكا أهلُ الكوفةِ الصحابي الجليل سَعدَ بن أبي وقاص إِلى عمرَ رضي الله عنهم أجمعين وافتروا عليه فريات عظيمة ، فعزَلَهُ واستعملَ عليهم عَمّاراً ، وأَرسلَ معه رجُلاً إلى الكوفةِ فسألَ عنه أهلَ الكوفةِ ، ولم يَدَعْ مسجداً إِلاّ سـألَ عنه ، وَيُثنونَ مَعروفاً ، حتى دخلَ مسجداً لِبني عبسٍ ، فقامَ رجلٌ منهم يُقالُ له : أُسامةُ بنُ قَتادةَ قال : أمّا إِذ نَشَدْتَنا ! فإِنّ سَعداً كان لا يَسيرُ بالسرِيّةِ ، ولا يَقسِمُ بالسّوِيّة ، ولا يَعدِلُ في القَضيّة ، فقال سعدٌ رضي الله عنه ليدفع عنه الظلم والإساءة ، وحتى يتحقق الناس من كذب ظالميه : أَما وَاللهِ لأدْعوَنّ بثَلاثٍ : اللّهمّ إِن كان عبدُكَ هذا كاذباً قامَ رِياءً وَسُمعةً ( فأَطِلْ عمرَهُ ، وَأَطِلْ فَقرَهُ ، وَعَرّضْهُ للفِتَنِ ) .
وكان بَعدُ إِذا سُئلَ يقول : شَيخٌ كبيرٌ مَفتون أصابَتْني دَعوةُ سعد . ويقول بعض من رآه : فأنا رأيتُه بعدُ ، قد سَقطَ حاجِباهُ عَلَى عَينيهِ منَ الكِبَرِ ، وإِنه ليَتعرّضُ للجواري في الطّرقِ يغمزهُنّ . ( نسأل الله العافية من عاقبة الظلم والإفتراء ) .
وهذا أحد العشرة المبشرين بالجنة تتهمه إمرأة في مصداقيته وفي أمانته فيضطر أن يدعو عليها بعد أن ظلمته حتى يرفع هذا الظلم والإفتراء عليه أمام الناس جميعاً .. ولا يخذله الله عزوجل فيستجيب له دعاءه : فعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنّ ( أَرْوَىَ بِنْتَ أُوَيْسٍ ) ادّعَتْ عَلَىَ ( سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ) أَنّهُ أَخَذَ شَيْئاً مِنْ أَرْضِهَا ، فَخَاصَمَتْهُ إِلَىَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ ، فَقَال سَعِيدٌ : أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئاً بَعْدَ ما سَمِعْتُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَقُولُ : مَنْ أَخَذَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْماً طَوّقَهُ إِلَىَ سَبْعِ أَرضِينَ ؟؟ ، فَقَال لَهُ مَرْوَانُ : لاَ أَسْأَلُكَ بَيّنَةً بَعْدَ هَذَا ، فَقَال سعيد : اللّهُمّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَعَمّ بَصَرَهَا ، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا . قَال : فَمَـا مَاتَتْ حَتّىَ ذَهَبَ بَصَرُهَا … ثُمّ بَيْنَما هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ !!
ومع أن التشريع الإسلامي يقول بجواز الدعاء على الظالم حتى يرفع الإنسان الظلم عن نفسه ، إلاّ أنه ما زال ُيكرر علينا في القرآن الكريم أن العفو والصفح والتسامح عند المقدرة هو الأحسن والأفضل ، فيقول فيه عز من قائل :
( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، وكان الله سميعا عليما ، إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرًا ) .