أريد أن أبصم لكم بالعشرة عن مقولة جدتي لأمي بأني ” معجون من نار” على هيئة آدمي .!!.كانت الجدة -غفر الله- لها تحتال في تشغيلي أكبر قدرًا من الوقت لتكسير بقايا الخبز الناشف لغنماتها؛ فتربط قدمي بسلسلة مخصصة لعقابي وتعطيني شاكوشًا لتفتيت الأرغفة الناشفة، وفي كل مرة أنجح في الهروب من السلسلة بتكسير القفل الذي أوهم فيه الجدة أنني أضرب الخبز، ثم أهرب ولا أعود إلا في المساء. كانت الجدة تمتلك عنزًا شامية مدللة لايمكن لأحد من أفراد العائلة الاقتراب منها لحلبها ..ولديها معتقد سائد أن العنز الشامية حليبها أفضل ..
بصراحة بعد كل هذا العمر ..اكتشفت أن كلامها صحيح!! ..لست أدري عن هذه المقولة لكن في طفولتي أظن أن عيناي كانت شبه زرقاء وشعري مسبسب أي ينزل خلف أذناي من نعومته ..كل ذلك من حليب العنز الشامية.
أنا هنا لاأجزم بما أقوله فقد تغيرت ملامحي بعد موت تلكم العنز واستبدلتها جدتي بعنز محلية …” شفنا من وراها نجوم الظهر بالليل ” من يملك عنزًا قبيل نحو 45 عامًا؛ كأنه قد ملك الدنيا برمتها . ومن حينها استحوذت على رأسي فكرة التجارة، كما كانت تفعل جدتي التي عملت في صناعة السمن وبيعه حتى أنها اشترت بيتًا من وراء ذلك بيد أن التجارة ليست كما يعتقد البعض مال ومردود وأرباح، بل هي شقاء ومكدة وتعب ..لايأتي الريال منها بالسهل. أنشأت متجرًا لدراسة كنت قد أعددتها وعملت عليها لمدة عام كامل ..تجاورت مع تاجر أفغاني من بلخ وهي منطقة السجاد الأفغاني كان يبيع السجاد والموكيت وكنت أراقبه كيف يستطيع العمل متواصلًا وكيف يجني الأرباح؟! الفكرة ببساطة أننا نعيش الوهم ونعيش صدمة الفرحة الأولى لكل عمل وسرعان مانخبت وتنطفئ نارنا ..الأفغاني كان يفطر ويتغدى في متجري ويستخدم النت الخاص بي عن طريق الواي فاي، وأنا أرفق بحاله، مضى عام كامل على هذا المنوال توقفت فيه أغلب المشاريع وتوقف معها العمل لدي ..والأفغاني يعمل ويكد ويبيع ومستمر يأكل ويشرب ويستخدم حاجياته من عندي مقابل أنه جار.
أقفلت متجري وحملت بضاعتي إلى مخازني وأعلنت توقف العمل والأفغاني بقي يأكل في متجري حتى آخر يوم رحلت فيه بعفشي !! وما إن رحلت حتى بدأ التفاوض لاستئجار موقعي السابق للتوسع في تجارته كل ذلك وهو يردد على مسامعي كل صباح ..”انا والله في مسكين وبلد حقي مشاكل” ..وهو يقصد حالته .. جاري الأفغاني كان أعظم جامعة تخرجت فيها بعد عام ونصف من الدروس والمحن ..لم أستفد من تجارب جدتي في التجارة؛ لأنها كانت طيبة جدًا تعطي الحليب والسمن لمن معه ولمن ليس معه مال، وتعيش بتجارتها على البركة التي نفتقدها اليوم، لكن جاري الأفغاني كان يعمل في تجارته على عدم الثقة حتى في نفسه لكنه لايستعيب أن يأكل ويشرب ويأخذ كل شيء طالما أنه موجود ولاأحدًا يمنعه.
التجارة لايدخل فيها العطف لذا نجد أغلب شبابنا يخسر كل شيء في زمن قصير، والأغلبية تفقد تواجدها وينتهي به المطاف إما مربوطًا بحبال التجار في الديون المعلقة عليه أو العودة للبحث عن وظيفة!! .. وأصدقكم القول ..كانت سلسلة جدتي الحديدية أهم محطة تخرجت فيها للسير نحو الأفق بعزيمة وصبر .. دائمًا الخسارة ليست نهاية المطاف، بل إن كل فشل يخرج من رحمه النجاح والقوة؛ لأن الحياة مدرسة تحتاج منَّا أن نتعلم كل يوم دروسًا عظيمة ..ربما ليس لنا ولكن حتمًا لمن بعدنا؛ لذا كل شاب أقدم على التجارة عليه أن يكون أفغاني الهوى ..والعمل .. وفن اقتناص الفرص، لكن حتمًا أن تكون سعوديًّا بين كل تلكم الكماشات فلن تنجح؛ لأن طابع الطيب يغلب علينا في كل شيء حتى أننا نتسامح في حقوقنا المشروعة، أليس حكومتنا أكبر دليل على ذلك؟! وكفى
عبدالله الشريف
التجارة لا تحتاج أصحاب القلوب الرحيمه لأن التاجر يهمه الكسب المادي ولو اضطر لإستغلال كل الطرق المتاحه والملتويه ولو كان على حساب البسطاء ولنا في تجارنا مثال .. لأننا لم نجد من يحمينا ! !