لن يصنع المشاريع التنموية العملاقة -في زمن التحولات والمتغيرات- سوى العظماء ، لأن العظماء وحدهم يعرفون قيمة التنازل عن بعض الحق المهدد بالزوال ، بقصد التسامح والتكامل للوصول إلى حقٍ آمن ومستدام ، وليس لنا في زمنٍ تولي فيه بعضُ الرعاة الحانقين ، أن نُسفّه رأي الرعاة وندعو لفوضى الرعية ، بل يجب علينا معالجة الحَنَق بالحقائق والحُسنى ، والعفو عن زلات ذوي الهيئات ، لأن من سُنّة الله في الناس أن حالهم لا يصلح بلا رعاة ، ولن تقوم مصالح الناس على يد الرعاة الغاضبين الحانقين عليهم ، حتى تزول عنهم دواعي الغضب ، وتنقشع عن مداركهم حواجب الوعي.
هذه الكلمات من وحي برنامج الثامنة الشهير ، الذي قدّم فيه مقدمه الشريان ما تسبب -له ولضيوف الحلقة إياها- في حدوث تجلطاتٍ إعلامية عجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي ، وفاضت بها نفوس السادة والسيدات من مشاهدي البرنامج .
وفيما يبدو أننا أمام ظاهرة تفتقر للرشد والوعي ، أضحت للمتابع ذي الحس الوطني المرهف بادية المفهوم ، واضحة المعالم ، تتلخص في فهمٍ خاطئٍ للتنمية الطموحة التي يتطلع إليها الشعب السعودي ، في رؤية المملكة (٢٠٣٠) ، حيث أن الخطأ يكمن في الفهم الخاطئ لتصريحات بعض الوزراء الذين يجنحون في ترجمة الماضي وملابسات الحاضر ، إلى جنوحٍ مغلوط ، يصوّر التنمية المرجوة “تنمية مضادة” ، يكون من خلالها ، محاسبة الشعب بكافة قطاعاته المجتمعية (الحكومية والخيرية والخاصة) على إخفاقات الماضي ، وتعثرات الحاضر !.
علاوة على تصريحات بعض رجالات الدولة من مستشارين في المؤتمرات الحوارية ، وورش النقاش التي من خلالها تتكوّن الرؤى المستقبلية للتنمية القادمة ، ولعل من أبرزها على الإطلاق ، مؤتمر الهيئة العامة للأوقاف ، والذي لم يَسْلم من التهمة ذاتها !.
ولذا كان من المفترض على اصحاب المعالي من وزراءٍ ورجالِ دولة حال ظهورهم في الإعلام والمحافل الرسمية ، أن يَقْدروا لهذه المرحلة قدرها ، وأن يراعوا فارق المعطيات ، وتباين الحيثيات الداخلية والخارجية التي توجب علينا جميعًا حسًا وطنيًا ، وعقلًا رشيدًا نتحدث من خلاله ، وبه نقود الأفكارَ التنموية إلى الغد المشرق بإذن الله.
هذا ؛ ومما يحسُن بنا أن نتمثّل قول مالك بن أنسٍ رضي الله عنه عندما سُئل عن شروط القائم بالأمر ، فقال : ( لا أراها اليوم تجتمع في واحد ، فإن لم تجتمع ، فَوَرِعٌ عاقل ، بالورعِ يسأل ، وبالورع يَكُف ) فيحملنا الورعُ على المعطيات العادلة حال السؤال ، وأن نُفْسح المجال لأهل التخصص والعلم والدراية فيما نجهل.
ولنا أن نتواصى فيما بيننا بعدة وصايا ، نتوجه بها نحو قطاعات المجتمع المعنية بالتنمية، بدءًا بالقطاع الحكومي الذي يجب أن يحذر من نقل تجارب الآخرين ، قبل أن يرسم لنا مسارًا تنمويًا خاصًا ، يستحضر فيه أمجاد الماضي ويعرض صفحًا عن إخفاقاته ، ويستثمر الحاضر بكل معطياته وفرصه وأطيافه، ويستشرف المستقبل رغم كل تناقضاته ومخاطره المتوقعه .
وأن نوصي القطاع الخيري بأن يتحوّل بالعقليات التقليدية التي استنفذت الأغراض المنوطة بها مع بالغ التقدير والإحترام لها وللدور المؤسس الذي قامت به ، أن يتحوّل بها من غمرة القيادة إلى مجلسٍ للحكماء ، ولا سيما أن العمل الخيري في مأزقٍ حقيقي يفرض عليه مراجعات واسعة تمنحه الجاهزية لتنمية مشتركة ، بعد أن كانت سياساته وتنظيراته الموروثة تخلو من التكامل الاجتماعي المشترك، مما شط به نحو النضال التنموي المتفرد!.
وأن يتحمّل القطاع الخاص ، مسؤولية الدراسات المجتمعية الرصينة القادرة على رصد الواقع وبناء الرؤى المستقبلية الواعدة ، والمشاركة الفاعلة في تحقيق العدالة المجتمعية وبناء النماذج المؤسساتية ذات النضوج المكتمل .
ومما لاشك فيه أننا بهذا العمل المجتمعي المشترك المتكامل نمضي نحو دولة مدنية تستقبل المستقبل المحمّل بالمخططات الإقليمية والدولية ، برؤيةٍ واعية ، ومجتمعٍ راسخ المبادئ ، عميق الولاءات .
خالد بن سفير القرشي