المقالات

سلطة النص أم سلطة التلقي؟!

أدب التواصل الاجتماعي

لا جدال في أن مواقع التواصل الاجتماعي باتت تشكل – على اختلافها – جزءًا أساسيًّا من إيقاع حياتنا اليوم، وامتدّ تأثيرها ليشمل جوانب الحياة جميعها بشكل مباشر أو غير مباشر، فأصبح الإنسان يعيش ويُنتج ويستهلك ثقافته من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
هذا المناخ الذي منح الإنسان مجالًا أكثر حرية واتساعًا لطبيعة وأشكال التعبير المختلفة، ولكن.. ماذا عن الأدب والإنتاج الأدبي، وعمليات التلقي، ومدى تأثُر الشكل التقليدي للأدب بالثورة التكنولوجية، والذي أصبح رغمًا عنه يدور في مدار عالم الافتراض هذا؟
الأدب بطبيعة الحال ليس بمعزلٍ عن هذا التأثير، إذ سرعان ما أصبح فاعلًا ومتفاعلًا مع مواقع التواصل الاجتماعي التي حققت له العديد من الميزات الإيجابية، وبخاصة فيما يتعلّق بالإعلام والانتشار، ويعرف الأدب التفاعلي بأنه ” جنس أدبي جديد ظهر على الساحة الأدبية، يقدم أدبًا جديدًا يجمع بين الأدبية والتكنولوجية. ولا يمكن لهذا النوع من الكتابة الأدبية أن يتأتّى لمتلقيه إلا عبر الوسيط الإلكتروني، ويكتسب هذا النوع من الكتابة الأدبية صفة التفاعلية بناء على المساحة التي يمنحها للمتلقي، والتي يجب أن تعادل أو تزيد عن مساحة المبدع الأصلي للنص “.
أضحت مواقع التواصل الاجتماعي متنفسًا للكتّاب الذين لا يمتلكون المقدرة على نشر إبداعاتهم ورقيًّا، حيث يمكنهم – كحلّ بديل – نشر ما يكتبونه إلكترونيًّا.
كما سمحت هذه المواقع للكاتب التعريف بمنتجه الأدبي بنفسه ونشره في فضاء واسع لا حدود له، وأصبح يعلن عن جديده عبر ما يبثه في موقعه أو مدونته أو الصحف الإلكترونية من صور لكتاباته أو اقتباسات منها، أعفى هذا الأديب من كثير من البوابات السلطوية والنخبوية والرقابية التقليدية ومكنه من النشر بسهولة.
من هنا أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي التي يتزايد أعداد المقبلين عليها بشكل كبير وعلى مدار ساعات اليوم ودقائقه فضاءً للعديد من الكتّاب سواء من وذوي الخبرة والتجربة الطويلة في الكتابة، أو من الشباب والهواة الذين يخوضون للتوّ غمار تجربة الكتابة، وأصبح هؤلاء الكتّاب يتفاعلون بشكل فوري مع قرّائهم .

وهذا الأمر خدم الأدب بأن غيّرَ الصورة النمطية عنه التي ترى أنه منتَج موجَّه للنخبة ومقتصِر عليها، وأنه يصعب فهمه وتداوله. فهذا الأدب الجديد، كجزء من الميديا الجديدة نوعي وعابر، لكنه امتداد للأدب الشّعبي جماعي ومجهّل، كتلك النصوص التي تولد وتتطور عضويًّا بتفاعل الجمهور.

يقدم هذا النوع الأدبي معايير جمالية جديدة وخصائص لم تكن متاحة من قبل في النص الورقي كخاصية تعدد المبدع، والتأليف الجماعي للنص الرقمي، وتعدد الروابط التي تؤدي بدورها إلى تعدد النصوص حسب اختيارات المتلقين، بعكس الأدب الورقي الذي تكون البداية موحدة والنهايات محدودة.
وتتصف اللغة الأدبية المستخدمة في هذه الأعمال المقدمة في الفيسبوك وتويتر بأسلوب جديد في الكتابة، يمكن مطالعته بسهولة في العديد من الأعمال الأدبية الحديثة، أهمها سمة التكثيف اللغوي، حيث الجمل القصيرة، والابتعاد عن الإطناب والتكرار، والاقتصاد الشديد واستخدام اللغة بحذر «لغة متقشفة»، فاللغة لم تقتصر على المفردات، بل امتدت إلى لغة الصورة والصوت في العمل الأدبي.

وهذه النصوص التفاعلية جعلت الكاتبَ أقرب إلى نبض الناس على اختلاف مستوياتهم، ووضع المنتَج الأدبي برمّته بين أيديهم، وقد شجّع هذا الأمر على انتشار القراءة وخلق جيلًا جديدًا من القرّاء الذين كانت العديد من الحواجز تحول بينهم وبين الكتاب، كارتفاع سعر الكتاب المطبوع، أو القلق من عدم فهم النص الإبداعي والدخول في متاهات التفسير والتأويل. كما وفّرت هذه المواقع أيضًا خاصيةً لتشكيل ما يُعرف بـ«المجموعات» أو «الصالونات» الافتراضية التي يتم إنشاؤها باختيار المهتمين في المجال الذي أُنشئت فيه، كالمجموعات المهتمة بالقراءة، أو بالنقد الأدبي، أو بالمسرح… تمنح الفرد الذي ينضم إليها نوعًا من الخصوصية، وتعرّفه على عالم وإن بدا محددًا بموضوع معين أو أهداف بعينها إلا أنه منفتح على فضاء افتراضي بلا حدود أو قيود.

لكن ليس كل ما قدمته هذه المواقع للأدب ينطوي على إيجابيات، فثمة سلبيات أيضًا ربما أبرزها أن سهولة التواصل واستسهال نشر الكلمة وغياب الرقابة أحيانًا هي أمور انتقصت من قيمة الأدب الحقيقي، وفتحت المجال أمام كثيرين ممن صاروا يكتبون أي شيء ويطلقون عليه اسم «أدب».

كما بدأت مواقع التواصل تفرز نوعًا من الكتابات يضرب بالتجنيس عرضَ الحائط، فلا هو شعر ولا نثر، بل خليطٌ من هنا وهناك، أو نصوص «خداج» لم تتشكل ملامحها بعد رغم أن بعض الأنواع الأدبية الجديدة استطاعت أن تجد لنفسها منفذًا عبر بوابة الأدب مثل القصة القصيرة جدا (ق.ق.ج) المكوَّنة من عدد محدد من الكلمات، لكنها رغم ذلك ما زالت نوعًا قيد التبلور.

كما أتاحت مواقع التواصل الافتراضية سهولة «سرقة» النصوص ونسبتها لآخرين، فكثيرًا ما نقرأ تنويهات لشعراء وقاصين بأن بعض نصوصهم قد «استوليَ عليها» من قِبل أحد الأصدقاء أو المتابعين لصفحاتهم على «فيسبوك» مثلًا، ولم يتوقف الأمر على الكتابات، وإنما شمل أشكال الفن المختلفة.

د.لطيفة البقمي

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. مقال رائع .. شكرا لك دكتورة … فحقيقة الأمر أن مواقع التواصل باتت تؤثر حتى في قيمنا ولغتنا ..
    مزيدا من التقدم .

  2. المقال اعتبره من المقالات الاحترافية التخصصية اشتمل على بداية مهدت لمتن قضية عصرية واختتم بنقد هادف وتشريح للنص بين الإبداع الممتع والحشو المغير مقنع شكرا للكاتبة التي لامست جروحا خدشت سطح جدار التواصل ببعض المشاركات التي تمردت على المكان بغياب الرقيب والله المستعان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى