رؤية / ناصر بن محمد العمري
في ديوان «شجرة يسقيها الشاي» للشاعر مسفر الغامدي الصادر عن دار «أثر» التقاطات مدهشة لمشاهد من ماضٍ بعيد استقرت في زاوية ما من وعي الشاعر نفض عنها الغبار، وأحاطها بالكثير من أحلام اليقظة وتداعيات الماضي وجماليات المكان ( بتعبير باشلار ووفق فلسفته) ثم صاغها نصوصًا تمتاز بأنها تلفت انتباه القارئ، بل تنفذ إلى لبه بشدة معلنة حضور اسم شعري يبدو متمردًا وثائرًا على الشعر السائد والنمطي.
اجترح مسفر في ( شجرة يسقيها الشاي) مسرابًا كتابيًّا خاصًا ومن خلاله أطل علينا بلغة مختلفة وبأسلوب لايخلو من فانتازيا ظاهرة تكسب الفنون معناها انطلاقًا من كون الفن جنوح خارج الأطر العقلانية وابتكار الغائب وإمساك باللامتوقع.
لذا يجيء ديوان مسفر متشبثًا بهذه الحقيقة موغلًا في دهاليزها؛ حيث تلمس في عنوان هذا العمل الشعري المختلف جنوحًا نحو اللامتوقع فالشجرة وإن كانت تشرب فهي حتمًا لاتشرب الشاي.
ولعل الشاعر هنا يؤكد من اللحظة الأولى للمصافحة أنه ينسج قصيدته على نحو يعبر عن رؤيته الخاصة والتي تحولت احتفاء ظاهرًا بعالم يعشقه تمثل الطبيعة وعوالم القرية ثيمات رئيسة فيه.
فيما تأتي القصيدة كاشتغال إبداعي لدى مسفر بمثابة ثيمة موازية؛ حيث ينسج قصيدة مختلفة تتوسل قيم مابعد الحداثة بامتياز حيث الاهتمام بالهامشي والذهاب باتجاه الذات، وترجمة تصوراتها أحد مهام الأدب والفن.
لعلي أؤكد أنني عند قراءة قصيدة مثل (الكواكب)؛ فإني استحضرت مقولات نقدية عديدة تؤكد أن الشعر لغة استثنائية وصورة مركبة ومجاز لا يكاد يلامس الواقع، وروح غارقة في تأملاتها، وإذا حضرت القصيدة بهذه الأبعاد تحركت في المتلقي حواس الجمال وقيم الإنسان العليا حيث يذهب بنا في نص الرسالة ( الكواكب) نحو مشهدية غريبة وسحرية تمنح مطلع القصيدة معنى مهيبًا يضعنا فيه إزاء مشهد كوني؛ حيث تهبط الكواكب من السماء بكثرة في حين كان الفلاحون يدسون أيديهم في جيوبهم مكتفين بمشاهدة التلفزيون …
يوما ما هبطت الكواكب بكثرة من السماء
هبطت في اللحظة التي كان فيها المزارعون
يستعدون لدس أيديهم في جيوبهم
والاكتفاء بمشاهدة التلفزيون
بكل مافي المقطع من حمولات يجسدها( يستعدون لدس أيديهم في جيوبهم .. والاكتفاء بمشاهدة التلفزيون).
في هذا المقطع رصد للحظة فارقة حين ترك الناس الزراعة وماتلاها من تحولات، لكنه لم يخل من حمولات تهكمية أو لنقل تحمل مشاعر عدم الرضا عن الحالة كانت نتيجته( أن تكف أشجار العنب عن الإنجاب مؤقتا).
حضور الفانتازيا وأحلام الطفولة في الديوان كان ملمحًا لاتخطئه العين، بل لا اذهب بعيدًا عندما أؤكد أنها كانت هي المحرك لكل النصوص فالفزاعة أو مايعرف في اللهجة المحلية ب(الخيال) ينزل للعب الكرة مع أطفال القرية ويسجل أهدافًا:
يهبط من عليائه ليلعب معنا الكرة
يمرر ويراوغ ويسدد بكلتا قدميه
نسمع طقطقة عظامه الخشبية
حين ينطلق من أول الملعب إلى آخره
مسفر لايلبث أن يحكي لنا تصوراتهم الطفولية عن الفزاعة فيقول : ومثل العصافير تماما، نخافه ولا نخافه…
نصدق أنه يرتجف من شدة البرد
يخجل من ثيابه المتسخة والممزقة
يدوخ من فرط حرارة الشمس ولا يعرف كيف يقع
يبكي لأنه يشعر بالجوع والوحدة في أحيانٍ كثيرة…
هذا الألق للذكريات وجمالية الوصف والمشهدية العالية تجعلني أؤكد أننا إزاء شعر خالص حتى لو كان بدون وزن وقافية تجسده مقطوعات عديدة تنتشر في أرجاء نصوص الديوان وتشغل منه مساحات ليست بالقليلة ليست :
لا يمل من الوقوف
ولا يتعب من رفع يديه
رجل خلق من شعر وأغنيات
لذلك لم يسموه فزاعة…
سمّوه خيالًا!
ألا واحدة من تلك المقاطع الملذوذة في ذات النص يأخذنا حديث الذكريات إلى تساؤلات مسفر الآنية للفلاحين عن مشهد ماضوي:
لا ندري ماذا كنا سنفعل بكراتنا الكثيرة
لو لم يتركوا لنا بعض (ركائبهم)
لنزرع فيها بأرجلنا
ما كفوا عن زراعته بأيديهم…
ثم يذهب بنا نحو مشهدية آخرى ليتم لنا الحكاية
بلغة لاتخلو من فخامة وإسقاط وشيء من فلسفته الخاصة وتصوراته وقراءته الخاصة للمشهد
فيقول :
لم يكن انتقال السلطة
من الأيدي إلى الأقدام سهلا في تلك الأيام
خاضه أسلافنا ببسالة نادرة
وواصلنا طريق كفاحهم وتضحياتهم
إذ كان الفلاحون لا يزالون يحتفظون بثيرانهم
ومحاريثهم في رؤوسهم الصلبة
لذلك كثيرا ما باغتونا بهجماتهم القاسية
في محاولة يائسة لتفريق الحشود.
وفي نص ( الرسالة ) جمع بين ذكريات طفولية وفانتازيا ممزوجة بأحلام اليقظة وخيال واسع أفرزت مشهدية وحكاية شعرية مملوءة بالشاعرية تغلفها تلقائية ظاهرة؛ حيث التلقائية عنصر جوهري في الإبداع، وهو ماتلمسه في نص الرسالة الذي يقول فيه :
في نهار مشمس
لا أثر فيه للمطر
وضعني أبي في مغلف من الغمام
كان قد احتفظ به من أشهر الشتاء
أخرج لسانه
وبلل حوافه الصمغية
ألصقه بعناية تامة
ثم وضعه إلى جواره في سيارته البيجو(450)
طيلة المسافة الطويلة
لم يحدثها بكلمة
ولم تسأله سؤالا واحدا
كان الطريق مأتما
وكانا على وشك البكاء في أي لحظة…
سيصل بها إلى المدينة
سيطير بها الهواء من رصيف إلى رصيف
ستنتقل من يد إلى يد
ولن تصل أبدا
إلى العنوان الذي خطه أبي على مغلفها .
هذا العمل الشعري فيه تأكيد على حقيقة مفادها أن على كل مبدع أن يجد طريقته الخاصة في تشكيل الخيال وفي إنماء فكرة ما مهما كانت بساطتها؛ ولأن الإبداع القوي رهين العفوية كون التصنع عدو لدود لأي ممارسة إبداعية أصيلة لذا نجد مسفر أقرب إلى العفوية الشديدة والطرافة على امتداد هذا العمل الشعري يقول في نص أجنحة:
أمي تلقبني بـ(المطيور)
أبي يسأل الله السلامة
كلما رآني من الأسفل
فاردا جناحيّ
هابطا على غصن من أغصان الشجرة
التي تراقب البيت من الخارج
وأنا أندهش حين أرى الناس
يسيرون على أقدامهم
في حين لم تكن قدماي
تلامسان الأرض إلا نادرا.
– فيما تأتي طقوس الإبداع وكينونة الإبداع لدى مسفر مرتهنة بظروف خاصة، وتسير وفق سيناريو شبه ثابت يبتديء بانسياب مفاجىء لفكرة ما، ثم تتقلب الفكرة بين العاطفة والفكر وتنتهي بصياغتها وفق تصور خاص ورؤية جديدة أنتجت ديوانًا شعريًّا جديرًا بالقراءة.