المقالات

اليمن ..مخيلة شاعر و ذاكرة وطن !

قبل سنوات عديدة زرت اليمن زيارة سياحية ماتعة ، تعرفت فيها عن كثب على شعب كريم يبدأ من المطار و لا ينتهي كرمه ، بل يمتد إلى الذاكرة بعد العودة من السفر .

العجيب أني قبل الوصول كنت محملا برؤى و تصورات غريبة عن أني بمجرد هبوطي في أرض المطار سأبدأ الشروع في رحلة مغامرة ، أسير فيها بين الرصاص و السكاكين و العصابات ، و كل ما يمكن أن يخطر بالبال من مخاطر ، غير أن الذي حدث كان عكس الذي توقعته ، فالرصاص تحول إلى ورود ، و السكاكين تحولت إلى ياسمين ، فشعرت ، بالفعل ، أني في بلدي ، بل في ذاكرة وطني القديمة ، بحكم أن اليمنيين هم أهم من شارك في بناء الوطن السعودي من الأيدي العاملة ، و كنت قد عشت طفولتي سعوديا يمانيا ، أي أن ثقافتي بالمعنى الشعبي تشكلت بعمق من هذا و ذاك ، و تحتفظ ذاكرتي بيمنيين هم بمنزلة أهل الحي ، و حين وصلت إلى اليمن ، انبعثت كل الأشياء التي كانت مخبوءة في ذاكرتي ، و تحولت إلى أشياء محسوسة ، رأيت البناشر القديمة، و المطاعم القديمة ، و الشاحنات التي ألفتها في طفولتي ، بل حتى سلوكيات السائقين من أبناء عشيرتي ، فشعرت بالفعل أني في عمق وطني ، و قد زاد هذا العمق الترحيب من قبل الشعب اليمني بكل سعودي سائح ، و ما لحظته من علاقة متينة ، إلى درجة أن المصادفة قادتنا إلى رجال عاشوا جل حياتهم في مكة و تعرفوا على آبائنا ، في إشارة إلى استحالة الفصل بين ما هو سعودي و يمني .
أوغلنا ، أنا و رفاقي ، في العمق الاجتماعي اليمني ، فكان مضيفونا يفيضون علينا من كرمهم و بساطتهم إلى الحد الذي لمسنا فيه التشابه بين الأسرتين السعودية و اليمنية في تفاصيل المائدة ، حيث أعادتنا رائحة الطبيخ و مذاقه إلى مطابخ أمهاتنا ، و إلى أكلات كان لا يجيدها سوى الجيل الأول من نساء حينا ، و تعرفنا على خصوصيات في المائدة اليمنية كبنت الصحن ، هذه البنت التي عشقتها و حال بيني و بينها الحياء في دعوة كريمة لأحد أصدقائنا اليمنيين حين قُدّر عليّ أن أكون في طرف المائدة و تكون هي في الطرف الآخر ، و كنت أسارقها النظر دون أن أستطيع مد يدي حتى طويت المائدة بعد أن انفضّ القوم.

في اليمن تجولنا بين صنعاء و إب و تعز و الحديدة و سخنة . كانت إب بجمالها الفاتن تحرّض على العشق ، فيما تعيدك سخنة إلى الزمن الأول حيث الأكواخ المسقوفة بالقش ، أما صنعاء فقد شعرت فيها بأيام طفولتي في مكة ، و كان انطباعنا عن الحديدة ، في أناقة شواطئها ، انطباعا جيدا ، و بدت لي تعز ، خصوصا في أهالي جبل صبر ، أشبه ببعض من لاقيت من أهالي سوريا ، في تلك الملامح القروية التي تختزن جمالا مخبوءا تحت ملامح الفقر الطافح على الوجوه.

كانت رحلتنا ذات مستويين ، مستوى اجتماعي أدركنا منه ما أدركنا ، و مستوى جمالي بدت لنا فيه اليمن ذات طبيعة خلابة ، في صنعاء و إب ، و ذات تاريخ عريق وقفنا على بعض شواهده ، كما لم نغفل التجوال في الجانب العلمي متمثلا في بعض أخبار الوادعي و العمران و قبلهم الشوكاني الذي روى لنا أحد مضيفينا طرفة عنه حين سئل :”ماذا نقول حين نسمع المؤذن يقول حيّ على خير العمل ” فأجاب ببديهة يمانية حاضرة :” نقول : لا حول و لا قوة إلا بالله ” .
و كنت من بين رفاق الرحلة أتجول في الذكريات القديمة ، و أتحسس و أتلمّس ملامح حارتنا في اليمن ، فلم أنس حتى تلك الأصوات التي كانت تعبرني لحظة التجوال ، فقد ترنمت بيني و بين نفسي بأغان يمنية قديمة كنا نقتسمها في أطراف الحي أثناء ليالي السمر .
بدت لي اليمن أشبه بمخيلة شاعر تنام في دهاليزها صور الطفولة ، فدعاني هذا الأمر إلى المبالغة ربما في كيل المديح للشعب اليمني الكريم ما جعل أحد الرفاق يعلق مداعبا :”لا تتعجّل ، فقد تفاجئك طعنة الخنجر في آخر رمق من الرحلة ” ، يحيل إلى تصورنا المسبق الذي ذهب أدراج الرياح في مقابل الكرم اليمني الأصيل الذي عدنا به إلى أرض الوطن ، و ما زالت الذاكرة تعبق برائحة البنّ اليمني و الخلق اليمني الكريم و لولا نبتتان أتمنّى اجتثاثهما من هذه الأرض المعطاءة لكانت اليمن قِبلة سائح و قُبلة عاشق ، هاتان الشجرتان هما : شجرة القات و شجرة الحوثي !

سعود الصاعدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى