إن الأدب الذي خطه الإسلام ورسوله يحتم على المسلم أن ينطلق من موطن قوي سليم يمده بمدد لا يقربه باطل ,ولا يثنيه عنه إغراء مهما كان جذّاباً ونزاهة النَّفس جزء من هذا النبع الرباني الذي ما استمسك به إنسان إلاّ وصل الغاية من طهارة القلب وراحة الفؤاد والسعادة بالخلاص من أردان النفس الأمّارة بالظلم والبهتان والاعتداء, بل الأمّارة بالسوء على اختلاف أشكاله التي تكدر المثالية الإسلامية وتلوث صفاء أديمها وروحها جميعاً.
ومعنى النَّزاهة في عرف اللغويين: “ترفُّع النَّفس وتباعدها عن كلِّ قبح ومعصية”، وهي بذلك تعدُّ ظاهرة إنسانيَّة تحكمها قوانين الإنسان وقيَمُه أفردًا ومجتمعات، وهذه الظاهرة توصل إلى ظاهرة الإصلاح والصلاح، ورغم أنَّ مصطلح النَّزاهة قد يتداخَل مع بعض المصطلحات – كمصطلح الأمانة، والأخلاق – فإنه أوسَع منها بكثير؛ إذ تشتمل النَّزاهة على قيَم الكفاءة، والاحترام، وتظهر النَّزاهة جلية لدى الفرد حين تَصطدم قراراته وأفعاله بالمصلحة الشخصية.
وتعرف النَّزاهة اصطلاحًا بأنها: “البعد عن السوءِ“، وترتبط بالبعد عن اللوم، ونَزاهة الخلق، وتتحقق النَّزاهة من خلال مَنظومة من القيَم للمحافظة على الموارد والممتلكات، واستئصال الفساد؛ منها قيمة الصِّدق، والأمانة، وعدم الإضرار.
والنزاهة تضرب بجذورها في كل عمق إنساني ,فإن كان هناك صحبة وجب أن تراعي حقوقها دون أن تتخلى عن النزاهة في موقف من المواقف التي ربما يكون محكا يؤثر في طبيعة تلك الصحبة ويحدد مصيرها ؛ ذلك لأن العواطف الإنسانية والمشاعر الأخوية أو صلة القرابة أو غيرها من صلات تتحكم فيها عاطفة النُّصرة ولو على حساب الحق والعدل, ولربما تلوي بعنق المرء عن نبل المقصد وسمو الحكم ونزاهته إلى منزلق يموت معه الحياد ,فتضيع بذلك حقوق وتهدر غيرها ويتولد من جراء ذلك تعاسة إنسان يلتمس الإنصاف في دروب عواطف إنسانية حادت عن طريق النزاهة , فغاصت في درب موحل تلفه أشواك تدمي فؤاداً أو تقتل ثقة , وتشوه أخلاقيات ، مما يؤدي إلى ضعف بناء المجتمع .ويقاس على ذلك أمور كثيرة ,وعلاقات إنسانية جمة .
ويعد العام ٢٠٠٨م نقطةَ انطِلاق النَّزاهة في العالم العربي كمفهوم وقِيَم، صرَّح بعدها المسؤولون والمختصون بعدَد من الحقائق التي أدهشَت المتابعين للشَّأن؛ حيث كشفَت هذه التقارير أنَّ العالم العربي متأخِّر جدًّا عن العالم في الاهتمام بالنَّزاهة.
وقد غفلَت الكثير من المؤسَّسات العربية عن هذا الجانب؛ لأسباب، منها أنَّ الثِّقة الأخلاقية طغَت على الرقابة والمحاسبة، الأمر الذي أوجَد التحايلَ الذَّكي على الكثير من الأنظمة والقوانين، أوصل ذلك التحايل إلى قبول ما لا يجوز من السلوكيَّات التي تمثِّل فسادًا لا يُقبل، سواء من ناحية تمدُّد الصلاحيات، أو استغلال النُّفوذ، وعلى مستوى صاحب السلطة أو القوانين أو التطبيقات…
ومنها كذلك الضَّعف الثَّقافي بالحقِّ والقانون من ناحية المستفيدين أو الجمهور؛ الأمر الذي يَدعو العديد من السذَّج لقبول مبادئ الفَساد من المستغلِّ؛ بسبب ضعف الوعي والجهل بالحقوق والواجبات والنُّظم.
ومنها أيضًا الضَّعف الرقابي على الأموال أو الممتلكات العامَّة والمشتركات الأخرى؛ الأمر الذي أسهَم في تعميق المشكلة، ونشأة التحايل الجماعي، والتعدِّي الذي يشتِّت هذه الأجهزة الرقابية ويمهد للفساد وانتشاره…ولعلَّ الأسباب التي أدَّت إلى ضعف النَّزاهة أكثر مما ذُكر بكثير.
وتسعى الدولة جاهدة إلى غرس مفاهيم النزاهة في المجتمع من خلال تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بمستوى عالٍ من الصلاحيات الرقابية على أجهزة الدولة المختلفة يشكل حدثا قانونيا وإداريا على مستوى كبير من الأهمية من حيث الوجود والدلالات، فهذه التجربة الحديثة تعطي دلالات ذات مغزى خاص، أَهمها أن قيم سيادة القانون والديمقراطية في السعودية ستسير بالاتجاه الصحيح مادامت هذه الهيئات الرقابية تعمل بشكل مستقل وبكفاءة مهنية عالية، كما أن الاهتمام بتعزيز قيم النزاهة والشفافية في المجتمع السعودي عبر الكثير من القنوات الإعلامية والثقافية والتربوية وغرسها في الجيل الجديد لكي تكون عملية البناء صحيحة ومتكاملة وسليمة.