(مكة) – بيروت
يحتفي لبنان غدًا بالذكرى الـ 73 لاستقلاله بانطلاقة سياسة جديدة تقاطعت على إبرازها كل الطبقات السياسية اللبنانية، وهذا ما تجلى بانتخاب رئيس الجمهورية في 31 تشرين الأول ، وتكليف رئيس لتشكيل الحكومة، وما سبق هذان الحدثان من أجواء مباشرة وايجابية فتحت الدوائر المغلقة والابواب المقفلة على حراك جديد كان الوطن بأمس الحاجة إليه.
وذكرى الاستقلال تكتسب في حياة الأوطان أهمية كبرى، إلا أن هذه السنة لها أهمية استثنائية في حياة اللبنانيين. فللمرة الأولى منذ سنتين ونصف السنة تقريبا، يسد الفراغ الرئاسي وينتخب رئيس جديد تتويجا لتفاهمات سياسية خلطت الأوراق، وأعادت النظر بالاصطفافات السياسية.
فاستقلال لبنان, كان يمنى أحيانا بسلبيات وعلل تظهر في اشكالات وفتن وحروب، بعضها قصير، وبعضها الآخر لأشهر أو أعوام عدة. ومع كل فتنة كان البعض يتصور بأن الكيان اللبناني الذي نال استقلاله بجهد جهيد آيل إلى الضياع، والهوية اللبنانية مهددة بالتمزق. ولكن إرادة العيش الوطنية المغروسة في الوجدان اللبناني، كانت دائما تعيد إحياء الآمال، وبالتالي تفتح السبل أمام مراحل من الازدهار والاستقرار والعمل على إزالة سلبيات الحقب السوداء.
بعد الحرب العالمية الأولى وخروج العثمانيين من لبنان وباقي المنطقة العربية، دخلت فرنسا إلى لبنان ليصبح تحت الانتداب الفرنسي. وفي أيلول من العام 1920 أعلن المفوض السامي لدولة الانتداب الفرنسي الجنرال غورو قيام “دولة لبنان الكبير” عاصمتها بيروت، أما العلم فكان عبر دمج علمي فرنسا ولبنان، وضمت ولاية بيروت مع أقضيتها وتوابعها (صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار) والبقاع مع أقضيته الاربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا) فاتسعت مساحته من 3500 كلم مربع الى 10452 كلم مربع وازداد سكانه من 414 ألف نسمة الى 628 ألف نسمة.
وفي 23 أيار من عام 1926 أقر مجلس الممثلين الدستور وأعلن قيام الجمهورية اللبنانية. لينتخب بعدها شارل دباس كأول رئيس للبنان.
ولم تعترف الحركة الوطنية السورية وممثلوها في لبنان من الزعماء السياسيين المسلمين، بالكيان اللبناني. وفي المفاوضات بين الحكومة الفرنسية والحركة الوطنية السورية في مطلع الثلاثينات، اشترطت فرنسا أن تسلم الحركة الوطنية السورية بالكيان اللبناني لقاء توقيع معاهدة تعترف فيها فرنسا باستقلال سوريا ولبنان. ولقد قبل ممثلو الحركة الوطنية هذا الشرط الأمر الذي أحدث تصدعا في صفوف السياسيين المسلمين “الوحدويين” في لبنان، وراح بعضهم “يتلبنن” مثل خير الدين الأحدب والبعض الآخر يبحث عن صيغة للتوفيق بين ولائه “القومي العربي”، وبين اعترافه بالكيان اللبناني مثل رياض الصلح وبشارة الخوري.
ومن عام 1930 إلى عام 1943، راحت “صيغة” رياض الصلح/بشارة الخوري وغيرهم من طلاب الاستقلال ـ تتبلور، إلى أن تحولت إلى ما سمي بالميثاق الوطني اللبناني، وهو يقوم على المعادلة التالية: من أجل بلوغ الاستقلال، على المسيحيين أن يتنازلوا عن مطلب حماية فرنسا لهم، وأن يتنازل المسلمون عن طلب الانضمام إلى الداخل السوري- العربي.
وفي بداية الحرب العالمية الثانية، ازداد الوضع العسكري سوءا أمام الفيشيين، وقلت إمداداتهم العسكرية وقل اهتمام هتلر بجبهة الشرق الاوسط ما اضطر الفيشيون لأن يقبلوا بشروط الحلفاء لوقف القتال والاستسلام في 8 تموز 1941. وجرت مفاوضات بين الجانبين (الانجليز والفيشيين ) في عكا، انتهت بتوقيع اتفاقية الهدنة في 14 تموز 1941 التي قضت بانسحاب الفيشيين من لبنان وسوريا، بعد ذلك تسلم الفرنسيون السلطة في لبنان وسوريا وحلوا مكان الفيشيين، وتولى الجنرال كاترو سلطة المفوض بصفة مندوب عام لفرنسا الحرة.
وكان الجنرال كاترو قد وعد اللبنانيين بالاستقلال في بيانه المؤرخ في 8 حزيران 1941 قبل بدء الحملة العسكرية، إلا أن اللبنانيين بمختلف طوائفهم احتجوا على هذا النوع من الاستقلال واعتبروه مزيفا لأن الدستور ما زال معلقا والفرنسيون هم الذين عينوا رئيسا للجمهورية (الفرد النقاش ) واحتفظوا لأنفسهم بحق التدخل في شؤون لبنان الداخلية، وعملوا على ربط البلاد بمعاهدة شبيهة بمعاهدة 1936. لذلك، كان الاجتماع الوطني الكبير الذي عقد في بكركي في 25 كانون الاول 1941، برعاية البطريرك انطوان عريضة وفي حضور ممثلين عن مختلف الطوائف والمناطق، وكان الشيخ بشارة الخوري (زعيم الكتلة الدستورية) ورياض الصلح (زعيم بارز في الحركة الوطنية ) من أبرز المحتجين على استقلال كاترو المزيف. وطالب المحتجون باستقلال لبنان التام وعودة الحياة الدستورية اليه واجراء انتخابات نيابية حرة وتشكيل حكومة وطنية صحيحة.
ومع شعور اللبنانيين بأن الانتداب تحول إلى احتلال، وفوز الشيخ بشارة الخوري برئاسة الجمهورية بتاريخ 21 ايلول 1943 وتأليف حكومة برئاسة رياض الصلح ضمت إلى الصلح: كميل شمعون، حبيب أبي شهلا، عادل عسيران، الامير مجيد ارسلان وسليم تقلا، أعلن الاستقلال التام، وعمدت الحكومة الجديدة إلى اعتماد اتفاق غير مكتوب بين المسيحيين والمسلمين، يعبر عن صيغة عيش مشترك بين اللبنانيين ضمن لبنان الحر المستقل. وقد انبثق هذا الميثاق من خطاب بشارة الخوري، ومن البيان الوزاري الذي ألقاه رياض الصلح أمام النواب.
وتضمن الميثاق المبادئ الآتية:
– لبنان جمهورية مستقلة ترفض الحماية الأجنبية أو الانضمام إلى أي دولة عربية.
– لبنان وطن لجميع اللبنانيين على تعدد طوائفهم ومعتقداتهم وهو جزء من العالم العربي.
– لبنان موطن الحريات العامة يتمتع بها اللبنانيون على أساس المساواة.
– يتخلى المسلمون عن المطالبة بالوحدة أو الاتحاد مع الشرق العربي، وفي المقابل يتخلى المسيحيون عن المطالبة بالحماية من الغرب الأجنبي.
إحالة مشروع تعديل الدستور إلى المجلس النيابي، اعتبر في حينها تحديا للمفوض السامي الذي علق الدستور وأمر باعتقال رئيسي الجمهورية والحكومة وبعض الوزراء والزعماء الوطنيين أمثال عادل عسيران وكميل شمعون وعبد الحميد كرامي وسليم تقلا واحتجزهم في قلعة راشيا. فقام رئيس مجلس النواب آنذاك صبري حمادة وبعض النواب باجتماع مصغر في بشامون جنوب بيروت وشكلوا حكومة موقتة ورفع العلم اللبناني المكون من ثلاث أقسام الاحمر في الاعلى والاسفل والابيض في الوسط حيث تتوسط الارزة الخضراء. فأعلن الاستقلال بتاريخ 22 تشرين الثاني 1943 وأطلق المعتقلون وتم الاعتراف به في 1 كانون الثاني 1944 وتم جلاء القوات الفرنسية في 31 كانون الأول 1946 وفي عام 1947 انتسب لبنان إلى جامعة الدول العربية وهيئة الامم المتحدة.
بعد الاتفاق على صيغة بيان العيش المشترك لم تقم حكومة الاستقلال بزيارة المفوض الفرنسي، كما كان متبعا في السابق لأن ذلك يتنافى مع مفهوم الاستقلال، وقد اعتبرت الحكومة المفوض سفيرا لبلاده في لبنان، لذا عليه، حسب البروتوكول، أن يقوم هو بزيارة رئيس الحكومة للتهنئة، لكن ذلك لم يحصل. وقيام الحكومة بتحديد البيان الوزاري بدون اشراك المفوضية الفرنسية، واصدار الحكومة مذكرة بوجوب استعمال اللغة العربية فقط في الادارات الرسمية، مما عطل دور المستشارين الفرنسيين فيها، فضلا عن اقدامها على تعديل الدستور في 8 تشرين الثاني 1943 بدون موافقة الفرنسيين لانهاء الانتداب وتحقيق الاستقلال واحالة هذا التعديل إلى المجلس النيابي لاقراره، كل هذه الامور مجتمعة أدت الى غضب الفرنسيين، فأقدم هيللو في فجر 11 تشرين الثاني 1943 على تعليق الدستور، واعتقال رئيس الجمهورية بشارة الخوري، ورئيس الوزراء رياض الصلح، والوزراء: عادل عسيران، كميل شمعون، سليم تقلا، والنائب عبد الحميد كرامي، وسجنهم في قلعة راشيا، وقضى القرار الذي أصدره هيللو بابطال مفعول التعديل، وحل المجلس النيابي.
وفور سماع نبأ الاعتقال توافد النواب والوزيران الباقيان خارج الاعتقال، حبيب ابي شهلا، والأمير مجيد ارسلان، إلى منزل رئيس الجمهورية، فعقدوا جلسة تقرر فيها ان يمارس حبيب ابي شهلا بصفته نائب رئيس الوزارة، مهام رئيس الجمهورية، وأن يشكل حكومة موقتة برئاسته يشاركه فيها الوزير مجيد ارسلان، لتقوم مقام الحكومة المعتقلة، بعد ذلك دعا صبري حمادة، رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت، النواب الى الاجتماع في المجلس النيابي، فلم يتمكن من الحضور سوى سبعة منهم، فقرروا تعديل العلم الى شكله الحالي وأرسلوا مذكرات احتجاج الى بعض الدول الاجنبية والعربية.
ونظرا لمضايقة الفرنسيين للنواب المجتمعين، توجهوا الى منزل صائب سلام وهناك منح النواب المجتمعون الثقة الى حكومة أبي شهلا الموقتة وأكدوا أن الدستور ما زال قائما رافضين بذلك اجراءات هيللو، انتقلت الحكومة الثنائية الموقتة، المؤلفة من حبيب أبي شهلا ومجيد ارسلان والتي اعتبرت شرعية، الى بشامون، بعد ان انضم اليها صبري حمادة. وهناك أصدرت أمراًالى مدير مصرف سوريا ولبنان، والى أمين صندوق الخزينة بالامتناع عن صرف أي مبلغ الابعد موافقتها، وأصدرت مراسيم تنكر شرعية اميل ادة، وتأمر الموظفين بعدم اطاعته، وأنشأت الحرس الوطني للدفاع عن مقر الحكومة الشرعية الموقتة .كما ارسلت مذكرات احتجاج الى ممثلين الدول الكبرى والدول العربية.
من جهة أخرى، عين هيللو الرئيس اميل ادة رئيسا للدولة وللحكومة، وطلب منه تشكيل حكومة جديدة، لكن اللبنانيين لم يتعاونوا معه، واندفعوا في الشوارع غاضبين، فقاموا بالمظاهرات وأعمال الشغب، واصطدموا مع الفرنسيين، فأضربت المدن اللبنانية إضرابا عاما، وقام الشباب الوطني بحماية التظاهرات وتنظيمها فضلا عن اشتراك اللبنانيين طلابا ونساء ورجال أعمال ومهن مختلفة في التعبير عن رأيهم الرافض لما يجري، فكان الاستقلال الذي أراده اللبنانيون.
وفي 22 تشرين الثاني من عام 1943 اضطرت حكومة فرنسا إلى إطلاق المعتقلين والاعتراف باستقلال لبنان التام بعد صمود اللبنانين حكومة وشعبا.
ولا يمكننا التحدث عن الاستقلال من دون ذكر الجيش. فمن التقاليد التي تمارس في هذا العيد، العروض العسكرية التي تنظمها قيادة الجيش، والتي تشارك فيها الألوية العسكرية كافة والقوات الجوية والبحرية، والوحدات المؤللة، بالإضافة إلى الدفاع المدني والصليب الأحمر وغيرها من الحركات الكشفية، فتغطي سماء الاحتفال البالونات الملونة بألوان العلم اللبناني وعلم الجيش وأسراب الحمام.
وللمناسبة أيضا، يوجه رئيس الجمهورية كلمة إلى اللبنانيين، يشدد فيها على معاني هذا اليوم، داعيا إلى الوحدة الوطنية والعيش المشترك.
بدورها، تحتفل المدارس والمعاهد بهذا اليوم الوطني حيث توزع الاعلام اللبنانية على الطلاب، وينشد النشيد الوطني.
وفي ذكرى الاستقلال ال 69، شارك محرك البحث العالمي “غوغل” اللبنانيين بعيد استقلالهم عبر تزيين موقعه بأعمدة بعلبك والعلم اللبناني. وظهرت في الصورة أعمدة قلعة بعلبك ملفوفة بالعلم اللبناني مكان حرف “L” من كلمة google التي كتبت بطريقة متداخلة مع صورة للسماء.
واليوم وللمرة الأولى منذ عامين ونصف العام، سيكون هناك عرض عسكري، هو بشارة لعودة عجلة الدولة إلى الدوران. المشهد يعكس في طياته فتحا لصفحة جديدة في الحياة السياسية اللبنانية والتفاهمات الوليدة، وضعت إلى حد بعيد نهاية لحقبة سياسية تجاوز عمرها العقد من السنين. والواضح أن هذه التفاهمات ستفتح الأبواب الموصودة بين المكونات السياسية محورها ضبط التناقضات التي عصفت بالبلاد طوال أعوام عدة، وبالتالي الاحتكام إلى الدستور وللعمل السياسي الراقي والحضاري الذي يخدم الدولة ويخدم الانسان في هذا الوطن.