تفترض نظرية حارس البوابة الإعلامية أن هناك رحلة تقطعها المادة الإعلامية حتى تصل إلى الجمهور المستهدف، وعلى طول طريق الرحلة توجد نقاط أو بوابات يتم فيها اتخاذ قرارات بما يدخل وما يخرج. وفي كل بوابة هناك سلطة لفرد أو لعدة أفراد لتقرير ما إذا كانت المادة الإعلامية ستمر أم لا ؟ وإذا كانت ستنتقل بنفس الشكل أو بعد إدخال تعديلات عليها.
ومن هنا فإن مفهوم حراسة البوابة يعني السيطرة على مكان استراتيجي في سلسلة الاتصال بحيث يصبح لحارس البوابة سلطة اتخاذ القرار فيما سيمر من خلال بوابته، وكيف سيمر، حتى يصل في النهاية إلى الجمهور المستهدف.
ولأننا اليوم محاطون بوسائل الإعلام ونعيش في عصر ثورة الإعلام والمعلومات والاتصالات فإن الأمر مختلف، وأصبحت الحاجة إلى بناء وعي إعلامي وتبني مفاهيم التربية الإعلامية والتوجه نحو محو الأمية الإعلامية مطالب عاجلة وملحة وشديدة الأهمية خصوصًا وأن الواقع يقول: (إن مقدار الوقت الذي يقضيه أبناؤنا مع وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي مفرطًا وطاغيًّا)، وخلال هذا الوقت يتلقون المعلومات والأفكار والرسائل من كل جانب، وفي شكل إعلامي جاذب وقوالب ترفيهية ومضامين مشوقة وقادرة على النفاذ إلى عقولهم من ثم التأثير في بنائهم وتكوينهم الشخصي والعقلي، وتكوين اتجاهاتهم وفق مضامين يرغبها مرسل الرسالة، تزداد الخطورة ويتعاظم الأثر حينما ندرك أن مقدرة أبنائنا على التعامل مع وسائل الإعلام لاتفي بما يحتاجه من كفاءة ووعي وفاعلية للتعاطي مع هذا الواقع.
ومن هنا تتعاظم أهمية الحديث عن التفكير الجاد في التوجه نحو ممارسات تساهم في خلق جيل إعلامي واعي يتعامل مع الضخ الإعلامي بما يناسبه من وعي خصوصًا وأننا نعيش في بيئة مشبعة بالمواد الإعلامية، وينبغي لنا أن نعي أن وسائل الإعلام لا تقدم مجرد عرضًا بسيطًا للواقع الخارجي، بل هي تعرض تراكيب مُصاغة بعناية تعبر عن طائفة من القرارات والمصالح المختلفة.
وغني عن القول إن الأمر لا يتعلق بالطلاب فقط، بل يتعداهم ليشمل واقع المعلم الذي هو في أمس الحاجة لرفع كفاءته في ذات المجال؛ بحيث يتدرب المعلمون على الكيفية التي يستغلون فيها هذه المواقع فتصبح أداة معينة ومستغلة، بدلًا عن أن تستغلهم وسائل الإعلام، وبالتالي يصبحون قادرين على نقل المهارة ذاتها لطلابهم استهلاكًا ونقدًا وتعاطيًّا وإنتاجًا.
■ ومن هنا :
تظهر الحاجة الماسة جدًا لمحو أمية المعلمين إعلاميًّا، والعمل على التوجه نحو مفاهيم التربية الإعلامية، والعمل على تصميم برامج تدريبية للمعلمين في مجال التربية الخاصة بوسائل الإعلام، هدفها أن يعرف المعلم كيف يكسب التلاميذ القدرة على استثمار المعلومات التي تصلهم عبر وسائل الإعلام؛ بالإضافة إلى الاهتمام بالبرامج التدريبية الموجهة للمعلمين بحيث يكونون أكثر قدرة على تعليم طلابهم فن السيطرة على أنفسهم.
وبات من الضروري أن تتجه المناهج الدراسية نحو تنمية ملكات النقد لوسائل الإعلام وتزويدهم بآليات وأدوات التفكير النقدي التأملي الذي يفضي إلى وعي إعلامي يساعدنا على تفكيك عملية تصنيع المواد الإعلامية، وعلى فهم المنتجات الإعلامية، ومن ثم فهم كيفية استخدامها.
وبهذا نستطيع محو الأمية الإعلامية للمعلمين وأولياء الأمور ونجعل الطلاب قادرين على التصدي الواعي لهذا الطوفان الإعلامي الذي يحاصرهم في كل مكان بتعليم الطلاب كيفية تقويم الصور الإعلامية التي تحيط بهم، وبالتالي نزودهم بالوسائل لاتخاذ خيارات مسؤولة عما يسمعونه ويرونه.
ودون التوجه نحو تشجع الطلاب على التوقف عند الرسائل الإعلامية لتحليلها وتحديد هدفها ولمن هي موجهة ؟ ولماذا صيغت في هذا الإطار دون سواه ؟ وما هي الحقائق الموجودة فيها أو المفقودة منها ؟ وما هي المصادر المحايدة التي يمكن التحقق منها ؟
وبدون امتلاكنا القدرة الكافية على تحليل الخطاب الإعلامي ولو بشكل مبسط ستصبح النتائج كارثية وستتفاقم التأثيرات وسنتحول إلى مستقبل سلبي؛ فوسائل الإعلام الجماهيري تعلّم وتبني القيم وترسخ السلوكيات وتقدم النموذج وترسم خط سير الحياة، ومع هذا فما زال المشرعون لا يتفاعلون بشكلٍ كافٍ مع هذا الواقع حيث لا نرى على أرض الواقع توجهًا جادًا نحوها.
الاعتقاد بأن الطلاب فقط يتعلمون في المدارس خطأ فادحًا، يدحضه واقع يقول إن الناس جميعًا بمن فيهم الطلاب يتعلمون خارج المدارس عن طريق مناهج مجتمعية، مناهج شاملة مستمرة وغير رسمية منبثقة عن الأسرة والأصدقاء والجيران ودور العبادة والتنظيمات والمؤسسات ووسائل الإعلام وغيرها من قوى التنشئة الاجتماعية التي نتعلم منها جميعًا طوال سني حياتنا، وقد أصبح الدور الفعال الذي تلعبه هذه القوى التعليمية غير الرسمية خطيرًا بصفة خاصة في أمور التعلم والحياة وبات يتنامى، وبدأت تهدد وظيفة المدرسة فعليًّا وتسحب البساط من تحتها دون أن تبذل دور التربية ما يحول دون خسارة المعركة الضارية.
التربويون في واقع الأمر يبدون غير مدركين بعد لهذا الخطر؛ لأن رد فعلهم على سطوة الإعلام لا يتجاوز تجاهله وفي أحسن الأحوال شكواهم من المضمون الإعلامي في الوقت الذي يفترض أن يكون التعاطي أكثر جدة، فمهمة التربية الجادة عسيرة ومتجددة وعليها أن تعمل على مساعدة المجتمع التربوي؛ ليصبح مستهلكًا إعلاميًّا أفضل تلقيًّا للمعلومات وأكثر مقدرة على التحليل، ولا سبيل لذلك إلى بالتوجه لوسائل الإعلام الجماهيري ضمن نظام المدرسة.
وقد كانت وزارة التعليم في المملكة العربية السعودية في عهد وزيرها الراحل محمد الرشيد ـ يرحمه الله ـ سبّاقة وأخذت زمام المبادرة نحو تبني مؤتمر إعلامي ضخم حول التربية الإعلامية، وبرعاية كريمة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ وختم بتوصيات تؤكد على أهمية تبني مفاهيم التربية الإعلامية في مراحل التعليم، وجعلها مقررًا دراسيًّا، والتأكيد على أهمية إعداد وبناء خطط وبرامج متخصصة في التربية الإعلامية، لكن رغم مرور مايقارب 10 سنوات على هذه التظاهرة لم تنفد من ذلك المؤتمر بالقدر الكافي ولم يحدث الكثير في هذا الصدد ولم ترَ توصياته النور.
اليوم بات الحديث عن التربية الإعلامية يتضاءل مع دخول مفاهيم الاتصال الجماهيري فيما لازالت وزارة التعليم لم تتجاوز مفهوم الإعلام التربوي، وكلما تأخرت التربية في تبني مشاريع ومفاهيم تعزز مكانتها ستقصى مرغمة عن دورها الرائد.
ناصر بن محمد العمري