د. موسى آل هجاد الزهراني

حوار مسموع مع النفس!

 وقع في يدي صورةٌ لي كانت مُلصقةً على (شهادة) الصف السادس الابتدائي. فذُهلتُ عن نفسي في نفسي.. ماذا فعلت بي الأيام؟!.

كم مرة أوهمتُ نفسي بأني سأعود يوماً إلى الماضي الذي كنتُ عندما كنتُ فيه أستعجل المستقبل!، كنتُ أنا وصديق طفولتي (ابنُ عمي) نضع السواد من (الفحم) على وجوهنا استعجالاً للشارب واللحية تقليداً للرجال الكبار!.

اليوم .. أريدُ الهروب من هذا الواقع الذي كان مستقبلاً؛ إلى ذلك الماضي العذب الجميل.

أعود بذهني كله فأشعر بأني في قريتي الصغيرة آنذاك (رباع).

 إلى جبل (الصفا)، إلى أوديتها، ومراتع الصبا.

أعود إلى حضن أمي الدافئ، ألمس يديها التي أثّرت فيها السنوات، أستلقي بجوار أبي، وأضع رأسي على قدميه كما كنتُ أفعل، وأتحدث وهو يضحك، وأستمع إلى قصصه وتجاربه الماضيات، رحمهما الله .

أعود إلى اللعب مع رفاق الطفولة، قريب البيوت القديمة المبنية من الحجر والطين، أرى أطفال القرية بثيابهم الممزقة المتسخة، يلعبون الكرة المصنوعة من قماش، ولا يبالون بأحدٍ، ولا يخجلون من أحدٍ لأنهم أطفالٌ صغارٌ؛ كبارٌ في تفكيرهم وذكائهم، ونباهتهم.

 كأني أستمع إلى أصوات الرعاة في (جبل الصفا) العظيم، وأرى قطعان الأغنام تملأ الجبل.

أرى (الضباب) يغطي رؤوس الجبال، وأشم رائحة نداه قبيل الغروب.. وأشم رائحة دخان (الحطب)، يخرج من كل بيتٍ، فأعرف أنه قد حان وقتُ طبخ العشاء، على جمر تلك الأحطاب التي تملأ (حوش) كل بيتٍ، فلم نكن قد عرفنا (الغاز) وقتها.

كان وقت الأكل محترماً في البيت، يجتمع كل أفراد الأسرة على (الصحن) على الأرض، وهي فرصة للمزاح، والكلام، والتسابق على خطف (اللقم) قبل الآخر، وأحياناً يحطُّ(كف الأب أو الأم) على خدِّ أي مزعجٍ زاد إزعاجه عن الحد المسموح به فيقوم غاضباً يُرغي ويزبد، ويهدد ويتوعد، ثم لا يفعل شيئاً! إلا أنه يستيقظ ليبحث عن أكل في منتصف الليل فلا يجد، فيقضي ليله كله جائعاً يتململُ، وما أطول الليل في تلك الأيام.

أعود .. لأرى مياه الأمطار تملأُ الأودية، تسيل من تحت بيوتنا، وتفيض منها (الآبار) ونتجرأ على السباحة فيها كلنا صغاراً وكباراً.

تلك الآبار التي كنا نرى أمهاتنا يتزاحمن عليها يحملن (قِرَبَ) الماء ،جمع: قِربة، على ظهورهن يستقين الماء، ويملأنها، ويعُدنَ بها إلى البيوت عبر طرقات وعِرة؛ لكي يشرب منها أهل البيت، من يتذكر هذا اليوم؟!. 

كانت حياتنا غايةً في البساطة والمرح والفرح، ولم يكن ينكَّد عيشنا إلا إذا تذكرنا الساعات الأولى من صباح يوم السبت! لأنها أثقل الساعات على قلوبنا بعد مرح يومين، (الخميس والجمعة)، نحمل همَّ يوم السبت وهمَّ تلك العصا التي يحملها المدرس في يده، وينتظر الطلاب المتأخرين على باب المدرسة، وقد ملك في يده كل الصلاحيات، من نزع الجلد وترك العظم! كما هي وصية الآباء للمدرسين. ما أطول اليوم الدراسي في ذلك الزمان، وما ألذّ ساعات الانصراف من المدرسة.

أثارت في نفسي صورة (الشهادة ) الابتدائية في نفسي الشجون. كأني أحياناً أهمُّ بالقيام من مكاني وأبحث عن طريق الماضي لأمشي فيه وأترك هذه (الشهادات) التي لم أفرح بها فرحي (بشهادة) الصف السادس الابتدائي..

أمشي في طريقه لأصل إلى عهد الصفاء والنقاء، والحب، والصدق..وأترك واقع النفاق والتصنع والتكلف، والفرح المصطنع، والمداهنة والمدارة، والحب المزيف.

 *       *

أيها الماضي الحبيب !

نمْ قرير العين في أحضان الدهر، ودعنا نعش في واقعنا مهماً كان مُرَّاً.

 فتلك هي سنةُ الله.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. ذگرياتٌ مضحگة مبكية…
    وكأنك تصف ريف يآفع الذي عاش به والِّداي، فقد ذگرتني بالقصص التي يرويانها لنآ عن طفولتهما… والتنهيدة التي تختمها!
    .
    .
    دوآم الحآل من الحآل يآدگتور!
    ولگن؛ نسأل الله ألآ يُغير علينآ الحآل إلآ لأحسنه

  2. ماضينا يجمعنا …ذكريات الماضي جميلة بكل مافيها…يتذكر الإنسان البساطة والعفوية والصدق والبركة والعطاء والأخلاص المرجلة والأخوة في كل مناحي الحياة…نعم كانت جميلة واستذكار الماضي كل فترة وفترة يعطينا بأن لازال هناك أمل…تحياتي

    محبكم / ناجم بن علي العدواني ✋

  3. للاسف الشديد عندما اقرأ هذه القصه يحزن قلبي وتدمع عيني لهذا الزمن الجميييل والذي لن يعود ابداً ولايبقى سوى في الاذهان .. نتذكره ولكن لن نعود له .. اياما قضت وذهبت في ذاكرة النسيان ولانجد طريقه في استرجاعه مهما بذلنا من جهد لان زمن الماضي غير زمن الحاضر .. والاشياء الجميله لن تتكرر والاشياء الغاليه والنادره لن تعود … فهذه مثل ماتفضلت وقات سنة الله
    اشكرك يا دكتور موسى الزهراني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى