الحاجة والواجب
لا يعني أنها تقع بعيداً في أقصى جنوب شرق آسيا، أنها لا تهتم بأمر المسلمين ولا تعنى بشؤونهم، وأنها لا تنشغل بهمومهم ولا تقلق على أحوالهم، ولا تفكر في مشاكلهم، ولا تسعى للتخفيف من معاناتهم، وتقديم المساعدة للمحتاج منهم، أو أنها تمتنع عن التعاون معهم والاتفاق وإياهم، لئلا يصيبها ما أصابهم، وتحل عليها اللعنة التي نزلت بهم، أو أنها تنأى بأنفسها عنهم، وتبتعد عن مشاكلهم، وتنجو بمستقبلها من أزماتهم، وتهتم بحاجاتها أولى منهم، وتقلق على مواطنيها مخافة العدوى منهم والتشبه بهم، وتتبرأ إلى الله من أخطائهم، وتتحالف عليهم مع أعدائهم، أو تؤيد خصومهم ولا تنتصر لهم.
بل عكس ذلك هو الصحيح، ونقيضه هو الموجود، فالأندونيسيون قلقون على المسلمين، وخائفون عليهم، ويهمهم أمرهم، ويحزنهم مصابهم، ويسوؤهم ألمهم، ويفرحهم فرحهم، ويحرصون على الاقتراب منهم والاختلاط فيهم والعمل معهم، فهم الدولة الإسلامية الأكبر سكاناً في العالم الإسلامي، ولهذا فقد انبرت فيها ثلةٌ من علماء الأمة الإسلامية الكبار، ورجال الفكر والثقافة وقادة الرأي العام، وتداعت على اختلاف أطيافها إلى باليمبانغ بأندونيسيا، واجتمعت على أرضها، والتقت في رحابها مع أهلها، لتتصدى بجرأةٍ وشجاعةٍ لشؤون الأمة الإسلامية، وتحاول أن تجد حلولاً لمشاكلها، ومخارجَ لمآزقها، ومستقبلاً واعداً لأجيالها المهددة بالخوف والغربة والضياع.
يشعر المسلمون في أندونيسيا الذين نجت بلادهم من فتن الإرهاب والتطرف، فأمنَ مواطنوها وسلم زائروها، ونعم بالاستقرار سكانها، واعتدل مسلموها فكراً وممارسة، وصفت أجواؤهم من أفكار التخوين ودعوات التكفير ومساعي الإقصاء، والتقى علماؤها على مصالح شعبهم ومستقبل وطنهم، فساءهم كثيراً أن العالم الإسلامي تجتاحه الفتن والخلافات، وتسوده المشاكل والصراعات، وتعم فيه الفوضى والاضطرابات، وقد مزقته حروبٌ ومعارك، وخربته فتنٌ ومصالح، فاستشرى فيهم القتل واستحر على أرضهم الذبح، وسالت دماء المسلمين فيه ظلماً وعدواناً، وأحزنهم ما يتعرض له الإسلام من تشويهٍ وإساءة، وتضليلٍ وإهانة، ومحاولاتِ وصفه ظلماً بالإرهاب، وربطه قصداً بالعنف والتطرف، وما يراد للمسلمين بقصدٍ من انحرافٍ في عقيدهم، وجاهليةٍ عن دينهم.
وقد حركهم لهذه الغايةِ الألمُ والأملُ، واستحثهم على الاجتماع وشجعهم على اللقاء، الظلمُ الواقع على المسلمين، والضيمُ الذي يتعرضون له، والحيفُ الذي يعانون منه، ومحاولاتُ الاستعمار للنيل منهم والتفرد فيهم، استشعاراً منهم بالخطر الذي يحدق بالأمة الإسلامية، ويستهدف الإسلام عقيدةً وأهلاً، وديناً ومنهجاً، وموطناً ومهجراً، وانتصاراً للقرآن الكريم الذي يتعرض للإهانة والتشويه، والتدنيس والتحريف، ونصرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتطاول عليه المجرمون ويعتدي عليه الحاقدون.
أولئك المجتمعون في أقصى جنوب الشرق من العالم، فكرهم نيَّرٌ، وعقلهم رشيدٌ، ومقياسهم سليمٌ، ووزنهم دقيقٌ، وعلمهم وافرٌ، وغيرتهم كبيرةٌ، وحرصهم شديدٌ، يعرفون الحق ويلتزمونه، ويميزون الخطأ ويعرفونه، ويرفضون الانحراف والتشدد والتطرف والغلو، وينبذون القتل والظلم والإرهاب، ويدعون إلى السماحة والاعتدال والحنيفية والوسطية التي أرادها الله، ويسعون إلى بسط الخير الذي قصده سبحانه وتعالى للبشرية، والسلام للإنسان، والعدالة للشعوب، والنجاة للخلق يوم القيامة.
وقد رأى المجتمعون وأغلبهم من الأندونيسيين أن على الدول التي كانت خاضعة للاحتلال والاستعمار الأوروبي، ومنها بلادهم التي استعمرت من أكثر من دولةٍ لما يزيد عن ثلاثمائة وخمسين عاماً، أن تستيقظ من غفلتها، وأن تصحو من سكرتها، وأن تعي وتعقل، فالاستعمار الذي خرج بعساكره وجيشه مكسوراً من بلادنا أمام هجمة الجماهير وإرادة الشعوب، يطمح أن يعود، ويتطلع أن يرجع، ويخطط ويعمل ليل نهارٍ بخبثٍ ودهاءٍ ليستعيد ماضيه، ويسترد ما يزعم أنه كان له، وهو لهذا يخطط ويعمل، ويفسد ويتآمر، ولا يكل من محاولاته ولا يتعب، ولا يمل من دسائسه ولا ييأس.
لهذا فقد رأوا ضرورة أن يكون في الأمة الإسلامية هيئةٌ ناظمةٌ مفكرةٌ عاقلةٌ صادقةٌ مخلصةٌ، تعنى بشؤون الإسلام والمسلمين وتهتم بقضاياهم، وأن تكون هذه الهيئة قريبة من شعوب الأمة وملتصقةً بهم، تعرف همومهم ومشاكلهم، وتعلم طبيعتهم وأفكارهم، وتكون قادرة على التمييز بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والنور والظلام، وبين الأصيل والدخيل، والسليم والسقيم، والمستقيم والمعوج، إذ يريدون تخليص الإسلام مما علق به من تشويه، وتنقيته مما ألحقه به الضالون والمفسدون مما ليس منه، ورد الأمة الإسلامية إلى الأصول والثوابت، وإعادتها إلى النبع الصافي الخالد، كتاب الله وسنة رسوله الكريم، حيث كان الإسلام للعالمين كافةً كمشكاةٍ تنير الطريق، ونجمٍ يرشد السالكين، ويأخذ بيد الضالين التائهين.
دعا المجتمعون على اختلاف أطيافهم وجنسياتهم إلى تشكيل مرجعيةٍ إسلامية جامعةٍ، تكون حكيمةً وعاقلةً، ومسؤولةً ومحاسبة، تخشى الله وتراقبه في أعمالها وأقوالها، وتحرص على المسلمين عامتهم قبل خاصتهم، وبعيدهم قبل قريبهم، وفقيرهم قبل غنيهم، وأسيرهم قبل حرهم، وجاهلهم قبل متعلمهم، وترسي في الأمة الإسلامية قواعد صلة الرحم بين البلاد والشعوب الإسلامية، وتنهي القطيعة والاختلاف بينهم، وتضع حداً للحروب والقتال، فلا يعود بين المسلمين خصومة، ولا يدوم بينهم قتال، بل تسود المحبة والمودة، والرأفة والرحمة.
دعا المجتمعون الأمة الإسلامية كلها للمشاركة في هذه الهيئة، التي أطلقوا عليها اسم “هيئة أهل الحل والعقد” ليتم تصويب المسار، وتوحيد الأهداف، وتصحيح المفاهيم، ونفي كل المعتقدات الخاطئة، إذ الأمة كلها مدانة ومحاسبة إن قصرت في القيام بهذا الواجب أو تأخرت في القيام به.
وقد دان الأندونيسيون ومن شاركهم مؤتمرهم تخلي العلماء عن واجبهم، وهروبهم من مسؤوليتهم، مما يتسبب في فراغٍ يشغله الجهلة، ويستغله المعادون، الذين يتربصون بالإسلام سوءاً ويرومون به شراً، ويفرحون إن أصاب المسلمين سوءاً أو حل بهم ضرر، بل إنهم يسهلون لبعضهم الانحراف، ويجملون لآخرين المعصية، ليسهل عليهم التدخل والمحاسبة والعقاب، والتضييق والحصار والحرمان، فالعلماء يتحملون كامل المسؤولية عما أصاب الأمة وما قد يصيبها إن تأخر العلاج واستعصى الحل.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي