العالم اليوم تسكنه ضلالات فكرية ، وفلسفات دموية لم تبلغ -من ذي قبل- الحد الذي بلغته اليوم ، في حين أن الفوضى تعم المعمورة كلها ، لا صوت لغير القوة والبطش والإكراه ، ولا شيء يُحترم سوى مصالح الغالب وأطماع القوى العالمية ، على تفاوت بينها حسب ما تنص عليه سياسات حياة الغاب .
لسنا في هذا العالم المؤجج بحمى القتل والمدجج بجرائم الحرب والإبادة في الخطر وحدنا ، بل حتى شعوب الدول العظمى في ذات الخطر والتهديد ، إذ الإنسانية منذ فجر الحياة الدنيا ، وهي تسكن في قانون واحد ، وتتعامل وفق سنن عادلة واضحة المعالم ، فالطبيعة التي تزلزلها الزلازل وتغشاها حمم البراكين ، علمتنا أن لكل زلزال ارتداد ، ولكل بركان غضبة يندفع بها بقدر الصمت الذي ظل يستجمع به غليانه .
العالم اليوم يسرف في القتل وسفك الدماء ، وكأنه بهذا الإسراف والسفك ، يعلن لنا مجددا عن أن ديانات السماء التي يدعيها لم تعد صالحة لديه للعمل والمواربة ، وأن النظام الدولي الذي لم يفتأ عن بناء اصنامه والنفث في عقده التنظيمية لم يعد هو الآخر قابلا للتداول ، بل إن اشباه الرجال ومسلسلات المفاوضات وعتمة الوعود وضبابية المواقف كلها باءت بالفشل الذريع .
في مثل هذا الفشل الذي يسكن كل نجاحات الوهم السابقة ، وفي مثل هذا الخراب الذي تتزين به معابد البغاة وعَبَدَة الدراهم والخمائل والذوات ، في مثل هذا الواقع البائس نجد أنفسنا أمام مشروعية طلب الحياة ، وفي لقاءٍ حتمي لضرورات إنسانية وقرارات مصيرية ، وفي ظل منح تمنحنا إياها المحن المستحكمة اليوم .
وبعد أن كنا نتهامس بالأمس فيما بيننا بضرورة البناء وفق رؤى تجديدية حاسمة ، وبعد أن تنادمنا في نوادينا التي ضاقت بنا وبقضايانا المكرورة وقوانا المكروبة ، يجب أن نتنادى اليوم -بكل شجاعة وقناعة وحزم- بضرورة التجديد في كل الرؤى التي آلت بنا إلى واقع يئن بين أيدينا أنين الثكالى و يتوسل إلينا توسل البائس الفقير .
يجب أن نُرْعي أسماعنا للواقع وتجلياته ، وأن نسير ولو قليلا مع الواقعية التي هجرناها كثيرا مراعاة للحصانة التي تتمتع بها المثالية الماثلة في عالم النظريات وقراطيس عقول المهاجرين عن حياة الناس وآمالهم وآلامهم وسبل معاشهم.
يجب أن نُحيل مشاهد الدمار المضرّجة بدماء الأبرياء ، موردا ملهما للوعي واليقظة من جديد ، مللنا البكاء ، وتمائم الخطباء ، وكرهنا التلاوم وطرق آذان المصلين بسجع الدعاء ، وحان وقت أداء الإنسانية حقها وحقن الدماء وكف الأذى ، وتحريم التطفيف الأخلاقي الذي تمارسه دور الفكر ومنابر السياسة ودواوين الريادة المزعومة ، حتى غدت الأمة الإسلامة أحزابا وطوائف يقتل بعضها بعضا .
يجب أن تتمخض هذه المشاهد عن وعي إنساني ينادي بحلف فضول يرد مظالم الإنسانية إلى أهلها ، وأن نتخلى عن التفرقات والتوهمات الحزبية التي توشح بها شبابنا سنينا عددا ؟!.
وأن ينزعوا عنهم الغشاوة الفكرية والعصبيات الجاهلية التي شابت رؤوسهم فيها وجنائز أهليهم وذويهم تغدو من بين ايديهم ولا تعود ؟!.
وأن ترجع المجتمعات الإسلامية لسمو الفطرة الإنسانية السوية، ليقظة تنشط بها الأمة من عقال الإكراه ، ليعود إليها وعيها كما كانت في سالف عهدها.
خالد بن سفير القرشي .