الحجّة لقب يُطلق في الحجاز على طائفة من الأفريقيات المنثورات بجانب المدارس أو المجمعات السكنية يمارسن التجارة وأحيانا الشحاذة بمهنية فائقة…
يتسلّلن بعد فريضة الحج للإقامة في الأزقّة والأحياء بحثا عن لقمة العيش…
قبل سبعة عقود.. كانت هناك طفلة ذات سبعة أعوام تحب الشّراء من الحجة التي تحفل بسطتها بمواد غذائية معظمها مٓحلّي مما تنتجه الأرض بالفطرة : حبحبوه … دوم … دقة بيضا …لوز بجلي… فول سوداني.
وكان مكيالها علبة صلصة صغيرة عليها من آثار الصدأ والتربة ما الله به عليم، تزن به اللوز ثم تضعه في أوراق الكراريس أو الجرائد الملقاة…
أخاديد نصف دائرية في وجهها كأنها آثار حرب يفعلونها عمدا من أجل التجميل أشبه بالوشم، تعكس اختلاف الثقافات وتكشف الهوة السحيقة في مقاييس الجمال عند البشر، وألوان الطيف النارية تشع من ثيابها الفضفاضة، وخلف ظهرها طفلتها المكتنزة الرضيعة عمرها أيام ذات جلد أسود لامع مصقول، تلصقها بظهرها بلفافة محكمة معظم ساعات اليوم. وعصاة غليظة بجانبها تهدد بها زبائنها الثقلاء من أبناء الحارة.
لا تملّ طفلة السّبعة أعوام من مراقبتها بين الحين والآخر، بالذّات أثناء قيامها بإرضاع صغيرتها في غدقٍ ظاهر، وصحةٍ باذخة، تختلس إليها النظرات متظاهرة بالشراء، وتتملكها الدهشة من تسربات نوافير الحليب من ضرعها الوفير. وتارة تتأملها من منزلها من زجاجة الغرفة العلوية التي تضم أختها النفساء في قلق متجدد. فهذه ثالث طفلة هزيلة تلدها أختها الكبرى المسكينة بعد أن خطف الموت طفلتين قبلها في فترات نفاس سابقة لأسباب غامضة.
وذات شجاعة أفضت الطفلة بهمّها الثقيل، وقالت بتأثر بالغ مستعينة بلغة الإشارة :
– يا حجة ما الذي تأكلينه فيجعلْ حليبك غزيرا ؟!!
– لم يعجب الحجة الحديث وبدأت يدها تتسلل لتمسك العصا مهدّدة..
– بكت الطفلة وقالت أرجوك ياحجة، لا أقصد إيذاءك.. أختي نفساء ومجهدة وضعيفة وحليبها قليل وابنتها هزيلة وتتنفس بصعوبة .. أرجوك يا حجة سأشتري منك كل ما يصلح من شأنها وشأن طفلتها.
– برزت أسنان الحجة بيضاء كالثلج ضاحكة متعجبة من بكاء الطفلة وسؤالها، ثم علا وجهها الجِدّ ورفعت سبّابتها المشوهة من جراء إصابة قديمة وقالت بيقين بالغ وعينين لامعتين:
– يا بنت: صحة من الله ، موت من الله ، حياة من الله.
– مسحت الطفلة ما تبقى من الدموع قائلة: طيب بم تنصحين؟ هل أشتري لها دقّة أم دوم؟ ما الذي تأكلينه يا حجة حتى يأتيك هذا القدر من الحليب؟!!
– قالت صارخة: يا بنت، حياة من الله، حليب من الله، موت من الله ، كله من الله.
غادرت الطفلة منكسرة وهي تردد بعصبية يا الله يا الله يا الله… وذهنها الصغير منشغل كيف تموت صغيرتهم الأخيرة وهي محاطة بالألحفة البيضاء وكل ما حولها معقم، وأصناف الطعام الصحي النظيف يملأ مائدة النفساء في الغداة والْعَشِي ، وصغار الحجة حفاة متناثرون في الأزقة يتقافزون كالغزلان، محاطون بكل ما يهدد الصحة والحياة.
أغمضت عينيها ضاغطة مرددة: حسنًا، كله من الله.. وما يجري علينا من صحة أو مرض أو حياة من الله … من الله .. من الله وفقط. فلأترك الأمر لله … تنفست الصعداء ، وتخلصت بمرح طفولي من التفكير في لغز الموت المحير الثقيل …
شكرا على درس التوحيد يا حجّة ، لقد بلغ مني مبلغا في الإيمان بالقضاء والقدر لم تبلغه دروس التوحيد التي أخذتها في المدرسة. وها أنذا أقولها لأبنائي الأحد عشر، أقولها لهم حينما يتغامزون بأبنائهم: “هذا قوي وهذا هزيل”، أقولها لهم بذات اليقين الذي لمعت به عيناكِ يا حجة فطوم ذلك يوم.
” كله من الله”.
أحسنتِ يا سيدة .. الحياة مليئة بالدروس ولكن من يفهم الدرس ؟!
جمعت بين جمال الماضي وبساطته وجمال الاسلوب وروعته وعباراتك مليئة بالدفء …موفقة ?
فعلا كل خير من الله.
سلم مدادك أ. فوزية ❤️❤️