لرداد وجهة نظر مخالفة لجماعته مما تشكّل ضده عداوات وتحزبات، وهو أضعف من مقاومتها أو حتى مواجهتها، مما دفعه هذا العجز الواضح الخضوع – بعدم قناعة – لرأي أهالي القرية، والانسياق مع المقولة “الشور شورك”، فما زالت حادثة الهراوات التي أصابت جسده عالقة في ذهنه حين اعترض على قرار ما، وكان يومًا مشهودًا على ألسنة الناس، والآن لن ينبس ببنت شفة حيث إن تجارب الحياة القاسية تعلّم الحيوان فكيف بالإنسان الذي يمتلك فكرًا يبعده عن مزالق الشر، لذا حين يجتمع القوم على رأي، فليس لرداد إلا الاختيار من خيارين إما الصمت أو الموافقة على مضض، ولا مناص من غيرهما، إلا أنه في المرات الأخيرة تجاوزت الآراء حدود المنطق، واكتشف أن أهل قريته يستوردون القرارات، وهذا الذي زاد غضبه، ليعلن عن احتجاجه، كانت ردة الفعل نبذه وإبعاده عن مجلس جماعته.
رغم وجع ضرب الهراوات المؤلمة إلا أنه احتج في هذه المرة بشكل لم يسبق له مثيل حين قرروا مساومة الماء بالتراب بحجة أنه ممكن يهيلوا على البئر الحجارة والتراب، ضحكوا منه وعليه ورموه بالسخف وقالوا: إن حدود فكره لا يصل قعور أذنيه، وأنه لا يمتلك وعيًّا اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو حتى سياسيًّا, وأن للقرى شراكة لا حدود لها، وأن استبدال الزراعة بقوالب إسمنتية هو عين العقل، ولمّا كان القرار جماعيًّا فما عليه إلا أن يخضع لهذا الرأي حتى لو كان على النقيض من المصلحة التي يراها، وهي محجوبة عن أعين الآخرين، البئر دفنت والجفاف ضرب أطنابه أنحاء القرية، المصاطب تحول زهاؤها الأخضر إلى غبرة مقيتة، مما أضحى السكان يتضورون جوعًا، عاد أفراد القرية إلى حكيمهم “رداد” وطلبوا منه أن يرشدهم ويمحضهم بالنصيحة، وما كانوا يدرون عمّا أصابه في أيامه الأخيرة إذ توقف عن الكلام، ولم يعد لسانه قادرًا أن ينطق بكلمة واحدة، ومكث أهل القرية يبحثون عن شخص يعينهم بعد أن ازدادت المقبرة اتساعًا والمنازل فراغًا، وبلغ بهم من ضعف الإرادة وقلة الحيلة حدًا كبيرًا مما يحتاجون إلى من يشفق عليهم، وينير بصيرتهم، أما الجد رداد الذي كان ينشد بطرق الجبل كنوع من التسلية، لم يعد قادرًا على هز شجرة عمره، ولم يعد في قلبه مساحة خضراء، واكتفى بالقعود على نتوء جبلي ليتأمل ما حدث لسكان قريته الذين أوجعوه ضربًا حين نصحهم ذات يوم، وهاهم الآن يبحثون عن مخرج لسوء تدبيرهم وقلة حصافتهم..
جمعان الكرت