السحاب الأبيض يصطدم بطيور فولاذية عملاقة تشق حوافه القطنية بسرعة ولامبالاة ..
النسيم العليل يختلط بشوائب دخان المصانع فيتشح بلون رمادي كئيب ..
السماء الرائعة تضج بسباق الأقمار الصناعية وصواريخ الاكتشاف ..
القمر الوردي .. نموذج الجمال المستدير .. مصباح الأرض الهادئ .. مهوى قلوب العاشقين .. وفرحة
أنظار السامرين .. اغتيلت شفافيته حين قدمت صوره المليئة بالصخور والظلام بعد أن زاره البشر ..
الشاطئ الهادئ تداعت رومانسيته عندما اصبح مقهى للتدخين بأنواعه ..
البيت السكن .. الذي جعله الله محضناً لدفء الأسرة .. تحول إلى منتدى لاستخدامات النت و أجهزته المختلفة ..
أدمنت الفتيات ولحقت بهن الأمهات .. أدمن الشباب و الأطفال .. باتت ضغطات الأنامل على الحروف بدلاً
عن نطق الكلمات وتبادل الحوار ..
فهذان زوجان يتسامران في مكان ما .. يتجشمان عناء الخروج ومسافة الطريق ليبقى كلٌ منهما أسيراً لجهازه
المحمول ..
وتلك عائلة تلهى أطفالها في بحر من الاتصالات والألعاب .. فغدا الطفل بليداً أخرس اللسان .. ميت الاحساس
استقباله ضعيف .. و ارساله مشوش ..
تعالت الكتل الإسمنتية إلى عنان الغيوم .. و غطت الطرقات أكوام العربات ..
منظومة عجيبة تتراوح مابين تعملق التقنية دالة على تفوق العقل البشري حين اخترعها .. و بين كيفية تدمير
الانسان لذاته وإضعافه لذهنه حين استخدمها .. تناقض عجيب محزن بين التقدم الخارق لجهاز محمول في يد و خرطوم عجيب يسحب الدخان ويرجعه في اليد الأخرى !!
كيف يرضى مراهق هذا العصر المتقدم بأن يكون عبداً للتدخين بينما يتشدق فخراً بعقله و تقنية عصره رامياً
والديه بالتخلف والرجعية ؟!!
عالم مزدحم .. مشبعٌ بشفرات التحكم اللاسلكية .. حتى اختنق الجميع بركام الرسائل المحلقة عبر القارات
وطبقات الغلاف الجوي ..
لوثةٌ من الادمان التقني أصابت ولم تبق ولم تذر ..
ليتنا نصحو يوما فنجد …
أطفالنا يلعبون الكرة في حديقة ..
يبنون بيوتاً من رمال في شاطئ ..
يشتركون في لعبة مثارها الركض والبراءة ..
أسرنا وقد جلست تتجاذب أطراف السمر في ليلة دافئة بلا ضغطات الأنامل المحمومة ..
زوجان يتيهان في أعين بعضهما حباً و شغفاً بدلاً من ضياع المواقع والحسابات اللانهائية ..
ليتنا نفيق يوماً فنفرح ..
بعالم بلا ملايين الأنفاس الملوثة بفساد التدخين .. فنملأ رئتينا هواء عليلاً .. نقياً ..
بمكتبات تفوق في عددها عدد المقاهي .. بترفيه ينعش القلب .. يمرن الجسد .. و يوظف العقل ..
كفانا تدخيناً.. كفانا تقنية تسلب الانسان وعيه .. كفانا ازدحاماً في الأرض والبحر .. وفي السماء ..
ينوح البدر يبحث عن إجابة ….
ألستُ أنا المتوج بالجمالِ
فكيف إذاً تحجبني سحابة ….
من الغازات جمراً باشتعالِ
أنادي العاشقين بلا استجابة …..
أصيب البشر بالصممِ العضالِ
أوافي البحر حباً واقترابا ….
يزيد الموجُ خوفي واعتلالي
لماذا الأرض فارقت الشبابَ ….
بعد ريعان الصبا نحو الزوالِ
فيابن آدم لا تدمي الرحابَ ….
اتقِ الله في صنعِ الفعالِ
حروبٌ .. ضجيجٌ ..دمارٌ .. و عذابا ….
أدهش الانسانُ هامات الجبالِ
شرُ العباد صاعد ٌ فاقَ الضباب ….
وخير الإله نزولا بالشروق وبالليالِ
هاهو نورسٌ أبيض … يحاكي زبد البحر بياضاً وإشراقاً …
يتناغم مع نسيم الهواء … يطير قريباً من موجاته .. صانعاً لوحةً أسطورية تجمع هدير الماء بترنيم الطير
ذلك الإبداع ذكرني ببريد القرون الغابرة … ذكرني بالحمام الزاجل حين كان يقبض آهات المحبين وتدابير
القادة بين ساقيه .. ويعبر بها بحراً كالذي تغازله طيور النورس أمام عيني …
كم كان إيصال الرسائل يزخر بالرومانسية قبل أن تهدر مراسلات هذا الزمان بضجيج الآلة وجفاف تعبيرها..
كان المحب يناجي محبوباً ليالٍ قمرية .. فإن جاد عليه الزمان بلقاء فكأنما أمسك القمر قنديلاً بين يديه …
واليوم … تتمنى أن تزهو بوصلٍ … قد يتجاهل صاحبه محاولاتك للوصول إليه … ثم تدرك أنه يرى وصلك
ولايرد مختاراً ..
كم كان التخلف مشيعاً للرضا وعذراً لاتخاذ التبريرات … وكم يخلق التقدم موجة من الخيبة والخجل …
ذاك التأخر وتلك الصعوبة جعلتا للوصل وهجاً ….
وهذا التعولم السهل يخفت وميض الشموع ليسبح المتواصلون في دجى معرفة المتصل و… تجاهله ..
كان للفجاءة إيقاعٌ جميل …. تجرد منه وصلُ إجباري .. يفرضه جهاز خليوي يحاصرك أينما توجهت …
قد يسجنك في مجاله … ولكنه لايدفعك لتبتهج بوصل من لاتروم وصله ..
آه … ياحمامةً ليتكِ بالوصالِ تعودي …
وتدنو الأماني برفيف الجناحْ
تلك الإشارةُ بالتباهي فجودي …
فيزهو المحب بتبشير الرياحْ
فذلك أبهى من هاتفٍ وطرودِ …
تذبحُ الحرفَ .. وتختزلُ النواحْ
د. فاطمة عاشور
مبدعة يا دكتورة اتمنى لكي التوفيق
لقد لامست ونكأت جراحنا بمقالك الرائع يا د. فاطمة…تصوير مبدع لما أنتجه التقدم و خلفته التكنولوجيا من تغييرات سلبية في تركيبة المجتمع والأسرة ككل ( رغم الفوائد الجمة التي نتجت عنها ).
بارك الله فيك وسلمت يداك دكتورتنا الفاضلة.