لفت انتباهي تردد أحد الطلاب في الرابعة عشر من عمره على مكتبي بصفة شبه يومية يبحث عن علاج مسكن للصداع، وكان يبدو عليه التأثر من الألم، وبعد التأكد من عدم معاناته من مرض عضوي يسبب له هذا الصداع المتكرر الذي يضطره للبحث عن مسكن يخفف عنه حدته، سألته عن حالته الأسرية التي حاول إخفاءها عني، لكن مع إصراري على معرفة وضعه الأسري باح لي بعد تمنُّع بأنه يعيش بين والدين منفصلين، والخلاف بينهما وصل لأروقة المحاكم، فتأكد لي أن نوبة الصداع التي يشكو منها الولد سببها اضطراب عضوي منبعه اضطراب نفسي قوي تمثل في مواعيد جلسات المحكمة بين والديه، وما يصاحب تلك الجلسات من تنافر واتهامات وسباب بين والده ووالدته مما يحدث في العادة في جلسات التقاضي.
الحالة الثانية : كانت لطالب حدثت له انتكاسة قوية جدًا في مستوى تحصيله الدراسي، فبعد أن كان في العام السابق من طلاب المدرسة المتميزين وأحد الأوائل بين أقرانه، تغير تغيرًا ملفتًا للأنظار جعله مثار استغراب من زملائه ومعلميه، وأصبحت اللامبالاة وإهمال الدروس وعدم إحضار الواجبات المنزلية والحرص على افتعال المواقف للخروج من الفصل وإثارة المعلمين بتصرفات استفزازية صفات ملازمة له. وبعد دراسة حالته وجدنا أن الطلاق هو أيضًا كلمة السر وراء كل التغيرات التي لحقت بالطالب المتميز في ظل أسرة مستقرة في العام الأول له في المدرسة، وتحول مفاجئ في العام التالي ليتحول لطالب يعاني من تدني المستوى الدراسي ويمارس سلوكيات غير مقبولة في المدرسة بعد انفصال والديه، وهو كما يبدو لنا أنه محاولة من الولد لمعاقبة والديه بالفشل الدراسي كردة فعل معاكسة، وللمرة الثانية نجد الطلاق هو السبب.
أكثر الحالات خطورة ظهرت على طالب بدأ يتعرض لتحرش جنسي من زملائه في الفصل ولا يبدي أي مقاومة تجاههم ولا يحاول صدهم بالشكوى أو الرفض، الأمر الذي جعله عرضة لزيادة عدد المتحرشين من الطلاب لأنه لا يحاول منعهم أو إيقافهم عند حدهم، ولا أعلم إن كان الحرمان العاطفي من رعاية الوالدين هو من تسبب في حالة هذا الابن المرعبة بالإضافة لعوامل أخرى مجهولة، لكن المؤكد أن الطلاق كان من أقوى الأسباب وراء ما يحدث لهذه الضحية.
عن الطلاق دعونا نحدثكم من المدارس، وما ينبئك مثل خبير ..
فما نراه عن كثب لأبناء يعانون من انعكاسات الطلاق على استقرارهم النفسي وتحصيلهم العلمي كثير ومخيف، وما نلمسه في الواقع من معاناة الأبناء بعد الطلاق يتجاوز التوصيف، فإن كنا نتحدث عن الكآبة والعزلة والانطوائية والعدوانية والشرود وسرعة الانفعال أو نتحدث عن التهور واللامبالاة والألفاظ البذيئة والعادات السيئة، أو نتحدث عن السمنة المفرطة أو النحافة الزائدة وقضم الأظافر وغيرها من الاضطرابات النفسية والعضوية فنستطيع القول إن قليل من الأبناء من يسلم من واحدة أو أكثر من هذه الحالات بسبب الآثار التدميرية التي تحدثها عبارة ” أنتِ طالق ” التي يدفع ثمنها الأطفال من طفولتهم وسعادتهم وحقهم في العيش في كنف والديهم.
أعلم تمامًا أن الطلاق قدر من الأقدار المكتوبة للإنسان في هذه الحياة، وقد يحدث لأسبابه ودواعيه التي تجعله أحيانًا ضرورة لازمة لاستمرار الحياة بشكل أفضل، وحلًا لمشاكل أكثر تعقيدًا مع استمرار زواج غير مقدّر له النجاح، وأن على المرء أن يواجه أقداره ويتكيف معها مهما كانت قاسية، لكن المؤلم جدًا عندما يتحول الأطفال بسبب هذا الحدث المزلزل والخطب الأليم وهو الطلاق لساحة حرب بين الطليقين، ويكون الأبناء هم الحلقة الأضعف في هذا الصراع، وهم للأسف من يدفع ثمن هذا النزاع.
حينئذ نستطيع القول إن الأسرة التي هي عماد نهضة المجتمعات وازدهارها قد تهدمت أركانها وأصبح أفرادها عرضة للضياع والفساد بسبب ” أنتِ طالق ” والتبعات التي تلحق تأتي بعد ذلك والنصيب الأكبر منها يقع على كاهل الأبناء، وهذا يفسر لنا السبب الذي جعل إبليس يقرب من أبنائه وأتباعه مَن نجح في التفريق بين الزوجين ويدنيه منه ويقول له : أنت أنت.
رفقًا أيها الآباء والأمهات بفلذات الأكباد، ولنتحمل كثيرًا لأجلهم لنجني ثمارًا يانعة إن أحسنّا رعايتهم واحتضانهم.
ولكي نبني مجتمعًا قويًّا قادرًا على النهوض بين الأمم علينا أن نحافظ على كيان الأسرة المسلمة؛ لتخرج لنا أبناء أسوياء قادرين على حمل مشاعل العلم وبناء الحضارات ومواجهة التحديات.
طارق عبد الله فقيه