نافذة – 2
ومن أسماء النوافذ : الشَّبابيك، ومفردها: شُبّاك…
أتراه يصدُقُ حدسنا إذا افترضنا أن بينها وبين شِباك الصيد صلة مّا؟!
أترى للرّحم المعجمي الذي يجمع بين (الشُبَّاك) و ( الشَّبَكة) بعض التقاء في معان مشتركة؟! ربما …
تهوى الشِّباك الصّيد .. فهل تحمل النوافذ في جيناتها شهوة الاصطياد ؟!
الصيد بالشبكة صراع بطيء … وقتل دون إراقة دماء… وفتك ليس له صوت…. سوى صوت الفريسة العالقة وهي تعارك الشباك رغبة في النّجاة، فإما نجت وإما لقت حتفها …
الصيد بالشِّباك يحتاج إلى صبر … وطول نفس … واحتراف… واحتيال…
هل تحتال النوافذ الوادعة؟!
لا زالت النوافذ تنبض بالأسرار … وينفذ منها ما يحير القلوب والأبصار ….
ولم يفت أبو المكارم – الذي أوردنا تعريفه للنوافذ في المقال السابق- هذا المعنى فقد ينفذ من النوافذ ما يوصل إلى النفس الأفراح أو الأتراح والهموم والجراح …
وفي التاريخ المعجمي للنافذة ما يؤكد ذلك، فمن معاني نَفَذَ: “القطْع والفتْك” : “ألا ترى أن النّفاذ هو الحدّة والمضاء”، “ونفذ السَّهم الرميّة: خالط جوفها ثمَّ خرج من الشقِّ الآخر”، “ونَفَذَت الطّعْنة: أي: “جاوزت الجانب الآخر”.
ألم يقل امرؤ القيس:
وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتّلِ
و بشار في قوله:
إنّ العيون الــتي في طـرفها حَـوَر
قتلنــنا ثم لم يحيين قتـلانا
يصرعن ذا اللبّ حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
و عنترة حين قال:
رمت عُبيلة قلبي من لواحظِها
بكل سهمٍ غريق النّزع في الحورِ
هل تهوى النوافذ الصيد؟!
لا تتوازى قامة النوافذ مع قامة الجدار العريضة الفارهة، ولا تشبهه في صلابة تكوينه، فغالب مادتها من الزجاج .. لكنها مع ذلك تحمل قوىً كامنة هائلة من الجذب والنفوذ تحقق من خلالها التوازن فيما بينها وبين الجدار …
تمنح جدارها الحبّ والضوء والهواء والحكايا، ويمنحها الظلال والحماية والسند…
تستخدم النافذة شباكها وفخاخها الفطرية من صوت ولمسة .. ولمحة وهمسة.. ورائحة تنفذ خلسة.. لتتفشى في جدارها لتمنحه البريق، لتبث في سطوحه الندى، ولتمكِّن العشب الدائم من الامتداد في أديمه لترفأ تصدعات الفصول … تدفئ ما جمد من صقيع الشتاء، وترطَّب ما تشقق في مواسم التصحّر والجفاف .. فتمنح المكان أجواءه الصحية… تبث في ربوعه السكينة، فتتقتح أزهاره وتزكو ثماره.
إنها بتلك الشباك تروم الإيقاع الجليل بجدارها النبيل…..
في الأزقّة الضيقة نوافذ مهيضة مصاريعها آيلة للسقوط، في بيوت غابت عنها سقوف القيم، فأجدبت جدرانها وتخلخلت قواعدها، فاضطربت النوافذ واصطكت مصاريعها تغالب الرياح في وهن، فأطلقت شِباكها في قارعة الطريق ونزعت الستار لتمارس دور الصّياد والفريسة والظالم والمظلوم، زجاجها بعض شظايا لم تفلح الطِّبابة في ترميم ما تهشّم … لا زرعٌ هناك … لا ثمار … لا أطيار … ولكن بعض شباك تنازع النهار …