المقالات

الهويات الواهية وهويّتنا الإسلامية المعلّقة

تتشعب الحياة والرؤى المتباينة بالناس، وتتمحور الذوات حول نفسها وحول قناعاتها الخالية من البيّنات، إلى أن آلت أحوال الناس إلى هويات مزيفة تعاظمت ضد هويات أخرى من جنسها وتماثلها، هويات تختزل الحقيقة وتمتهن المشترك، وتزيّن الغفلة، وبها يربو التزوير وينبت التضليل، وهكذا حتى بدت الأمور على غير حقيقتها، والنتائج خلاف مقدماتها، وظلّت التصورات الخاطئة -بسبب هويات الزيف- تتوالد وتتكاثر ويتفرّع عنها أحكام الجور والظلم والتشويه والتفرقة.

فوقعت هويتنا الإسلامية تحت سلطة الغفلة، وأسر الزور وبهتان التطاول، مقابل التحيز إلى هويات مزعومة تلوكها ألسنة الناس في مجالسهم ونواديهم وعلى منابر الوهم والشتات، هويات جوفاء لا حقيقة لها عند التحقيق والتمحيص، هويات الرجيع والرجعية والجاهليات البائدة، تراها في دعاوى البؤس المتوارث في أوساط المثقفين -بزعمهم- تحت شعارات التحرر والتقارب والحرية، وفي دعاوى السُخف والحزبية والمذهبية، والتوهمات الطائفية والقوميات العربية التي تسوّقها مزاعمُ الأصالة وتحكيم العقل وجريان العادة، إلى أن غدت الأمة ممزقة كل ممزق، فعدت عليها عوادي الزمان، وسطت عليها عوائد الحدثان.

وبهذا دخلت الأمة في سبلٍ فرّقتها عن سبيل الله، فصارت بلا وعي تتقاذفها عولمةٌ دوّختها الأهواء الشرقية والغربية، وجاهلية نتنة فتّت في عضدها، وجرت هذه الداهمة في أغلب المجتمعات والهيئات والبلدان، الأمر الذي دفع بقية باقية من الأمة إلى النداء لحماية الهوية وتعزيرها رغم أنهم يتلبسون بما يعارض نداءهم، إذ إنهم يدعون إلى هوية جزئية شحيحة تفرّق -هي الأخرى- بين المؤمنين، وتذرهم في مشاحنة وتحارب للحد الذي نتذكر فيه (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا )، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولن يستقيم للأمة حالها، ويصلح شأنها في أمر هويتها، إلا أن ترجع لدين ربها ومقاصد شرعه وفق مقتضيات الحال والزمان والمكان، وأن تتحرر النفوس من حظوظها، والذوات من أفكارها التي جعلت لله شركاء من خلقه بحجة الفكر والمكر والمكابرة.

تلك الأفكار التي ذهبت باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وجاءت بأسماء سمّتها لهم ردود الأفعال والمعاندات الفكرية، والحيل التي كانت تستوجبها حاجة المرحلة في حينها، ورغم أن الحاجة قد زالت، إلا أن الحيل قد ظلّت في الأمة تقيد حركتها وتفرق دينها، والشيطان ينفث فيها، حتى نبتت نابتة الحزبيات والجماعات والتيارات والحركات والفرق المتّبعة للمتشابهات بغية الفتنة وابتغاء التأويل الفاسد.

إن الأمة اليوم بحاجة إلى من يحررها من حيلها التي احتالت بها لنفسها فتطاول عليها العمر حتى انقلبت وبالا في عاقبة أمرها، وأن تتعرّف على نفسها مجددا وبعيدا عن رأي من لم نشهد واقعه ولم يشهد واقعنا اليوم وحالنا، فإننا بحاجة بالغة لأن نتلو القرآن والسنة كما تلاهما الرعيل الأول فعرفوا بهما أمر ربهم، ومقاصد شرعه فيهم، وأن نسمو بأنفسنا عن كل تسمية ما انزل الله بها من سلطان، وأن نعيد صياغة أنفسنا وفق محكمات شرعية، وفي نور المحجة البيضاء التي يصلح بها الحال ويشرق بها الزمان و يزهو المكان، وأن نتيقّن أن كل نداء دون هذا النداء، هو نداء لعصبية مقيتة أو تزيين لضلالة فكرية أو تبرير لحزبية ومذهبية مشينة.

إن الحرية من أسر النفس وقيد البشر طريق الانتماء للحق والإباء والمنَعة، ولا انتماء للحق ما لم نعِ حقيقة ديننا وأنفسنا وإنسانيتنا، فبالوعي نصبر على ما جاءنا من الحق ونتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا )، وبالوعي نقْدر للأمور قدْرها، وبالوعي والحرية نتخذ لنا آمالا نصبو إليها ونعود إلى هويتنا الإسلامية الكلية الجامعة المانعة التي تتوحد عليها الأمة جمعاء للقاء الغد الواعد والنصر الموعود، ومن لا حرية له ولا وعي عنده فلا انتماء ولا هوية له إلا أن يتقي لنفسه تقيّة سرعان ماتزول.

كتبه خالد بن سفير القرشي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى