يزخر تاريخنا الأدبي بوافر من السبائك الأدبية ؛بل من أكرم ما جادت به القرائح الإنسانية ، بعضها مدفون والآخر يخرج على استحياء ، وما خرج أقل بكثير مما هو مدفون ، ودأبت مواقع التواصل الاجتماعي على المرور على بعض النصوص الأدبية المقتضبة لعدة أسباب ، قد يكون للانتشار فضل في ذلك ، وربما لوجود معجب أحبّ إذاعتها ، إلى غير ذلك من أسباب الذيوع ، وقد لفت انتباهي اجتزاء بعض النصوص والتغني بها ، وأحببت أن أبين ما بها من جماليات ، ومن تلك النصوص ، قول الشاعر :
و لمَّا تَلاقينا على ســـــــفحِ رامَةٍ
وجدتُ بنان الـــــــعامريَّةِ أحمرا
فقلتُ خضبتِ الكفَّ على فراقنا؟!
فقالت : معاذ الله , ذلك ما جرى
ولكنَّنِــــــي لـــــــما وجدتُكَ راحلاً
بكيتُ دماً حتى بللــت به الثرى
مسحت بأطراف البنانِ مدامعي
فصار خضاباً في اليدين كــما ترى
هذه الأبيات تنسب لمجنون ليلى “قيس بن الملوح” ، وهو شاعر عذري اشتهرت قصته مع ليلى حتى ألّفت منها الحكايات ؛ بل إن بعض دارسي الأدب ينسب كل شعر ورد فيه اسم “ليلى ” للمجنون !! وهذه من الأخطاء التاريخية ؛ إذْ الأحوط التثبت من النص ، وإلم يوجد قائله فمع الأبيات والقصائد حائرة النسبة ، ولعلنا نعود للنص نمايز بينه وبين اعتلال القلوب الماضي والحاضر ، فالصورة حيّة متوقدة ؛إذْ تنتقل عدسة التصوير إلى قمة هضبة تطل على مضارب من الخيام ، وحولها المواشي لها ثغاء ورغاء ، يتقابل العاشقان بعد طول افتراق ، فبعد لغة القلوب ودقاتها، والعيون وسهامها ، يأتي دور تفقد حواس الجسد للإطمئنان ، من باب الحفاظ على مكتسبات القلب ، فتكون الصدمة غير المتوقعة ، خضاب بعد فراق !!؟ والموقف هنا لم يحتمل البدء بالسلام والسؤال عن الحال ، كما هو حال عشّاق هذا الزمان ، وإنما تحوّل اللقاء الحميمي إلى سؤال شك خاطف ، فقال بنبرة أسى وحزن ، مع ميلان للرقبة وانكسار للنظر وفتور في الوقوف : خضبتِ الكفَّ على فراقنا؟ فجاء الاعتذار على طريقة الرد السريع ، معاذ الله ذلك ما جرى ، وتأكيدًا لقسمها وبرًا بحلفها أكملت التبرير ، لا لشيء إلّا لإزالة الشكوك ، فالقلب مليء بالحب وتباريحه ولا مكان للشك والألم وتقاريحه ، ثم يرتفع رتم الصوت قليلًا لتأكيد البراءة ، برغم انصراف المحبوب ناحية غروب الشمس ، وكأنه شاهد على انغلاق تجاويف القلب إذا لم تقنعه بعذر سمين ، فقالت : ولكنَّنِــــــي لـــــــما وجدتُكَ راحلاً ** بكيتُ دماً حتى بللــت به الثرى هنا استعاد “المجنون” قواه والتفت نحوها وأصغى لتبريرها وهو ينكث الأرض بعصاه ، وكأنه يبحث في الثرى عن بقية دماء طاهرة بلّت بها الثرى بعد الثوى ، فواصلت تبريرها بعد أن تمكنت من الإقناع ، فقالت :
مسحت بأطراف البنانِ مدامعي
فصار خضاباً في اليدين كــما ترى
هنا تم الإقناع وسكن خوف المجنون وهدأ روعه . والشعر مبالغة ، وهذا النص أصدق دليل ؛ إذْ لا نتخيل أبدًا منظرًا بهذه الصورة ، فالعيون المقرحة تبدو غير جميلة ، والبنان الذي مازال محتفظًا ببقية دم ليس مقبولًا ، ولكن المبالغة الشعرية عادة ما تقدم الصورة للتعبير عن صدقها العاطفي والشعوري ، وبعيدًا عن صدق الصورة وقربها وبعدها ، وحقيقتها وخيالها ، نقارن بين الصورتين القديمة والحديثة ، فهل بقي حب كحب المجنون وليلى ؟ مامدى الصدق العاطفي عند الكثير من العشّاق في أزماننا المتعاقبة ؟ هل نتخيّل أن عاشقًا تتقرح عيونه فيجف الدمع ويستبدل بالدم ؟ لا أظن ذلك فمقياس حب هذه الأيام الخرفنة ، واشحن لي بطاقة ، ضف وجهك ولا تكلمني ، ولعل آخر الصيحات هي أن يكتشف العاشق الولهان أنه طيلة فترة عشقه يعيش الوهم ، فما المحبوبة التي تكلّمه ويشحن لها سوى جندي أول في احدى القطاعات العسكرية يجيد فن تقليد الأصوات ، رحمك الله أيها المجنون فقد شغلت العشّاق بألمك .
أبدعت التحليل والتصوير ووضعت القاريء في قلب الحدث
ومن وجهة نظري أن حب الامس لاينتهى ابدا حتى بعد موت العاشقين فان سيرة حبهم تبقى خالده مابقى الوجود واكبر مثال على ذلك ماأوردت في سياق تصوير نص قيس وليلى*
حب اليوم،اتصال هاتفى خاطىء، أو إعطاء رقم فى احد الاسواق…بعدها سلسلة من المحادثات
حب الامس…..غايه عظيمه…..لحياة مقدسه
حب اليوم…..يهبط باخلاق الواهمين الى ادنى درجات الغرائز البهيميه
حب الامس ….روح….قلب….صفات
حب اليوم….جسد….مقارنه…..مواصفات
مقال أدبي نقدي رائع
وفقك الله يادكتور
تحليل جميل دكتور نايف يبدو أن تاريخ العشاق و مصارعهم سيبقى محبوسا في طيات كتبنا ….. لن تعرف الأجيال مثيلا له