سكّان الأحياء الشعبية أعرف الناس بقطط الشوارع ، بأنواعها و شخصياتها و أمزجتها ،بتلك القطط الخيّرة و القطط الشريرة ، في حين لا يعرف سكّان الأحياء المخملية سوى قطط البيوت ، و تحديدا القطط السياميّة من ذوات الفرو الناعم . عالم القطط يبدو عالما موازيا لعالم الناس في حياتهم الشعبية ، و قد جاء وصفها في الحديث الشريف بالطوافين ، لأنها تطوف على الناس و تشاركهم تفاصيل حياتهم الخاصة . ثمة قطط دخلت لاحقا في تصنيف رمزي جديد يتعلّق بالعالم الرومانسي و هي ، في ظني ، قطط حداثية ، أو يمكن وصفها بقطط ما بعد الحداثة ، إذ تحوّلت فيما يظهر إلى أيقونات جمالية و رخوة ، خصوصا تلك القطط التي تظهر في السوشل ميديا في صور مختلفة تعبّر عن العصر الارستقراطي للقطط ، و هو العصر الذي لم يدركه جيل القطط القديم في الأحياء الشعبيّة ، و تحتفظ ذاكرتي في هذا الصدد بقط كان ملء سمع و بصر قطط حينا الشعبي . كان نصف وجهه المحروق يزيده هيبة في نفوس القطط التي لا تستطيع الاقتراب منه أو الدخول معه في خصومة مواء عنيفة ، و أظنه مؤخرا لقي حتفه تحت عجلات سيارة طائشة . بعدها سادت الحي فترة ركود و غياب للقطط عن المشهد ، و اقتصر الأمر فقط على الطواف بالموائد الشهيّة أو الحضور النادر في أطراف الشارع ، مع أن المفترض أن يحدث العكس بعد موت سالف الذكر ، القط الذي أحتفظ باسمه لدواعٍ أمنيّة و أخلاقية ، بيد أن ما حدث أكّد لي ضرورة وجود الأشرار في حياة القطط كما في حياتنا و ربما كانوا سببا في النشاط الحركي و عدم الركون إلى الدعة .
ما كتبتُه آنفا حضر تلقائيا في ذاكرتي أثناء قراءة “كافكا على الشاطىء” للروائي الياباني هاروكي موراكامي ، و في روايته المدهشة هذه فتح مسارا للإيغال في عالم القطط و الدخول في حياتها الخاصة من خلال المعتوه ناكاتا . و ناكاتا في الأساس طالب ذكيّ و نابه تعرّض لصدمة جعلته ينزوي في عالمه الخاص ، و من هذه الخصوصية دلف إلى محادثة القطط و فهمها و البحث عن المفقود منها ، و كان مولعا بمنح القطط أسماء تتاسب طبيعتها من أجل التواصل معها و تصنيفها في ذاكرته فيما بدا لي .
المهم أنّ موراكامي كان مدهشا في التصوير و التعبير ، إلى درجة أنّه نفض من ذاكرتي كل القطط التي كانت تعيش في حيّنا الشعبي و نبّهني إلى ما لم أكن أدركه من قبل عن هذا العالم الذي يطوف حولنا . بدا لي أنّي رأيت القط كوامورا و القطّة الذكيّة ميمي و المدلّلة جوما ،في حيّنا القديم و في مواقف شتى ، كما أعادتني إلى تلك الحادثة القديمة ، حين رأيتُ خلف منزلنا قطا مشنوقًا يتدلّى في خشبة صلب ، فتأثّرت آنذاك و كتبت مقالة قديمة بعنوان “القط المشنوق” ، أنعي فيه الطفولة التي توحّشت و فقدت براءتها و كان شنق القط بطبيعة الحال شاهدا حيّا لإثبات ما كتبتُه آنذاك .
عزّز موراكامي بهذه الرواية الربط الذهني الذي ظل معي زمنا و لا يزال بين القط و الرجل الياباني ، فلدي شعور قديم أنّ القطط ذات ملامح يابانية ، لا سيما تلك القطط ذات الفراء البيضاء و الوجوه الواسعة ، و كنت حين يلتقي المنتخب السعودي منتخب اليابان أرى هذا الشبه حاضرا بقوّة في فريق أراه أقرب إلى عالم القطط .
بهذه الرواية ذهب بي الروائي الياباني إلى أبعد من ذلك ، إلى تفاصيل هذا العالم الحميم ، ليؤكّد لي أن ّ اليابانيين أكثر الناس فهما للقطط ، كما أكّد أيضا أنّ القطط قد تكون في سلالاتها القديمة ذات أصول يابانيّة !
و أخيرا ، بدا لي غير ما يختص بعالم القطط ، أنّ الرواية اليابانية من أمتع الروايات العالمية ، إيغالا في التفاصيل ، و تصويرا للحياة بمختلف مستوياتها و عوالمها ، و تأتي رواية موراكامي ضمن هذه الروايات و ما عالم القطط فيها سوى جزء من عالم واسع و مدهش استطاع موراكامي تصويره بإحساس فنّان مقتدر .
سعود الصاعدي