المقالات

فنّ المقامات والجذور

( المقامة القبقابيّـــة نموذجــــا ً )

هي فنٌ من الفنون اللغويّة في الأدب العربيّ، والتي تهتم بنقل قصةٍ عن شيءٍ ما، وتعرف أيضاً بأنها نصٌ نثري يجمع بين فن الكتابة والشعر، وتشبه القصة القصيرة في أسلوب صياغتِها، ولكنها تختلف عنها بأنها تتميز ببلاغةٍ لغويةٍ في المفردات، والجُمل المستخدمة فيها، وغالباً ما ترتبط المقامات بقصصٍ خياليةٍ من نسجِ كاتبها.
يُعتَبر فنّ المقامة من الفنون العربية القديمة، والذي استخدم في المجالس الأدبية، والتي تهتم برواية النوادر، والقصص الفكاهيّة، وأيضاً احتوى نصها على العديد من الفوائد اللغوية، والجماليات الأدبية، والأمثال، والأبيات الشعرية الغريبة، مما ساهم في انتشارها بين الناس، واهتمامهم في متابعتها، من أجل إدراك الفائدة المرتبطة بنص المقامة.
ترجّح الآراء والدراسات التاريخيّة إلى أن نشأة فنّ المقامات في الأدب العربيّ يعودُ إلى أبي بكر بن دريد وأحمد بن فارس، وهما من الأدباء العرب القدامى، ولكن لم يصلْنا من المقامات التي ألّفاها إلا عددٌ قليلٌ جداً، أما عن انتشار المقامات بشكل كبير في الأدب العربي، فهو يرتبط بالأديب بديع الزمان الهمذاني، والذي كتب العديد من المقامات المشهورة، والتي ما زالت معروفة حتى هذا الوقت.
ومن أشهر المقامات بعد مقامات ابن دريد :
مقامات الحريري وهي مقامات أدبية ألفها أبو القاسم محمد الحريري البصري (446هـ/1054م – 6 رجب 516 هـ/11 سبتمبر 1112م) وهي من أشهر المقامات التي تنتمي إلى فن من فنون الكتابة العربية الذي ابتكره بديع الزمان الهمذاني، وهو نوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، ويدور الحوار فيها بين شخصين، ويلتزم مؤلفها بالصنعة الأدبية التي تعتمد على السجع والبديع. وتنافسِ الأمراء باقتناء نسخ مقامات الحريري . قال فيها حاجي خليفة صاحب كشف الظنون : «”كتاب لا يحتاج إلى تعريف لشهرته”» ، وقد قال أيضا الزمخشري في مدحها، وهو من معاصري الحريري : «”أقسم بالله وآياته ومشعر الحج وميقاته أن الحريري حريٌّ بأن نَكتُبَ بالتبر مقاماته وهو الكتاب الرابع من كتب المقامات حسب التسلسل التاريخي”»، وترتيبها هي :

1- مقامات بديع الزمان (المتوفى سنة 395 هـ)

2- مقامات ابن نباتة (المتوفى سنة 405 هـ)

3- مقامات ابن ناقيا (المتوفى سنة 485 هـ)

4- مقامات الحريري

الهمذاني بديع الزمان، مؤسس هذا الفن ورائده، وجميع من كتبوا فيه عيالٌ عليه،
أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحي بن سعيد المعروف ببديع الزمان الهمذاني ، (358 هـ/969 م – 395 هـ/1007 م)، إلا أن مقامات الهمذاني لم تلقَ من العناية والاهتمام ما لقيته مقامات الحريري.

ومن المعاصرين أذكر:
سماحة والدي المرحوم الشيخ محمد راشد الحريري (ت 1993م) وله عدة مقامات جميلة جدا أشهرها المقامة الحمارية .
سماحة الشيخ العلامة موسى رشراش اللكود (ت 2000م) وله المقامة القبقابيّة كتبها أيام الدراسة في الأزهــر الشريف ـ يسخر فيها من وزير المالية الذي خيّب طلبات التلاميذ بطلب قبقاب للوضــوء في شقتهم، وهي نموذجنا الذي اعتمدناه في هذه المقالة المتواضعة .
الدكتور السوري المرحوم عبد السلام العجيلي وسمّى مقاماته بالمقامات، طبعتها وزارة الثقافة السورية سنة 2003م وطبعت بدار البعث الدمشقية ، أولها المقامة االطبية الأولى ثم الحقوقيّــة ، وآخرها المقامة الجنيفية ، والمجموع إحدى عشرة مقامة ، وهي من روائع الأديب الطبيب العجيلي رحمه الله .
وفيما يلي نسخة المقامة القبقابيّة المعدلة رحم الله قائلها سماحة العلامة اللكود :

المقامة القبقابيّـــة

سماحة الشيخ المرحوم موسى اللكود ، من ذكريات أيام الأزهر الشريف 1941 م

الى معالي وزير المالية المخضرم

الموضوع : طلب قبقاب ووتر برووف water proof بجلد خرووف.

تحيتان، عسكرية ومثلها مدنية، أولاهما بالرِّجْـل وثانيهما باليد… نقدم الأولى لمقامكم العالي ، والثانية لجنابكم الغالي ، وبعد :

نحن أهالي الشقة الغربية – سوق الصيارف الكبير – ذات الرقم 3 – قد جئنـــا بقضّنا وقضيضنا بعد أن حزمنا أمرنا وجمعنا كلمتنا ، طالبين بكلِّ دقة قبقابـــــاً يركبه أهل الشقّة .

ليس بالكبير البيّن ولا بالصغير الهيِّن ، عوان بين ذلك ليِّن…

أعلاه مرتفع وأسفله متَّـسـع ، يحمده الأعمى إذا سار ولا يذمّــه البصير إذا غــار.

ناعم الملمس كالسجادة

طريّ الجلدة كاللبّـــادة

بالرِّجْــــل لطيف ، وبالوزن خفيف

لا يُسمع صوتُـهُ إنْ مُشي عليه ، ولا يتزحلق لابسه إذا ركن إليه .

يمتنع عن الجار عند طلبه، ويطأطئ طاعـةً لصاحبه .

يصلح عند الاغتسال في الحمام ، وللمطبخ وقت الطعام .

يكون للوضــوء مقبــولا ، وعند الطهارة مأمــولا

كرسي عند الاجتماع ، ووسادة للاضطجاع

خالٍ من المسامير النافرة ، والتجاعيد النَّـكِــرة

إذْ صُنع على على مهل وأمن من الزغــل

يصلح لكل ثائـــــــــــــــر ، ويعتد به كل زائر ، ويُهَدَّدُ به كلُّ جائر ، ويُصاد به كل طائر … حسام عند المشاجرة ، وترس وقت المنافرة .

نهشُّ به على الهرِّ إذا بدا ، وعلى اللصِّ لو عدا .

بارد وقت المصيف ، حارٌّ فيما بعد الخريف

عِـدَّة لمتسلق الجبال والأشجار وخشبة للتزلج على الثلوج في فصل الأمطــــــــار .

لا سبيل للسوس إلى خشبته ولا تتسرب العفونة إلى جلدته .

يُدَّخــر كنزا ومؤونة في الحياة، وإرثـــا بعد الوفــــــاة

وإنا لنرفع هذه العريضة الغراء، والمذيّلة بمئة إمضــــــاء

تعبر عن الشعور ، وما يجيش في الصدور

ولولا أخلاقكم السمحة ، وحاجتنا الملـحَّــــــــــــــة

ما رفعناها اليكم ، ولا تطفلنا عليكم..

فأجب سؤلنا وحوارنــا ، كي لا تشمت بنا جوارنــا ،

فعندهم القباقيب الكثيرة ، والأحذية الوفيرة ،

وإنا لنقدّر أن الطلب كبير ، وثمنه بالنسبة لماليتكم باهض كثير ،

ينزل عجزا بالميزانية ،،، وكأنه صفقة الأسلحة التشيكية !!!

ولكن ماذا نفعل والأرض كأخلاقكم باردة ليلاً لاذعــة نهارا ً ..

والحرارة تولد الرمد ، وهذا يورث الكمد ،

والبرودة تقوي البواسير المزمنة ، والدوزانتاريا الكامنة ، واالروماتيزما الآثمـة .

ونعاهدكم عند تلبية هذا المعروف، أننا سنحيطه بالعناية وننشر ثناءكم عند سكان البناية..

في النهار سوف نلبسه ، وفي الليل نتناوب كي نحرسه

ونعدكم بمنحه إجازة أسبوعية ، وعطلة صيفية .

ولا نستعمله أيام الجفاف ، حتى لا يُحْوِجــنــــا إلى إسكاف .

لأنَّ أكثر الصناع خونــة ، يتخابثون في سرِّ الصنعة والمهنــة .

وسوف تلهج ألسنتنا بذكركْ ، وأرجلنا بشكركْ

ويكون لك في كل خطوة حسنة ، ويُمحى عنكم بها سيِّئة

وسوف يكون عنوانا لأفضالكم ، ودليلا على حسن أعمالكم ،

إذ الهدايا على مقدار مهديـهــــأ ، والعطيّــة مرآة موليها ،

ولسوف ننحت على ظاهره رسمكم ، ونشيد على جنباته ذكركم واسمكم ،

ليكون سجلّا حافلا بتاريخكم العظيم ، وعملكم الجسيم ،

وإطـــارا ً خالدا لخيالكم الكريم …

عشت يا وزيرنا الماجد في القبقاب الخالد …

التوقيع

طلاب الأزهر الشريف لعام 1941 بمصر المحروسة

القاهرة – سوق الصيارف الكبير – شقة 3

· ملحوظة : كل ما جاء في اللون الأحمر فهو من تصرفي وتعديلي أنـــا العبد الفقير إلى الله تعالى :

د/ محمد فتحي راشد الحريري 

ابن أخي صاحب المقامة القبقابيّــــة العتيدة …

د. محمد فتحي الحريري

باحث في شؤون اللغة والاسرة وعلم التربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى