فيما سوى الانتماء لما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم بسعته و شموله ، تبدو لي فكرة الانتماء التنظيمي لأيّ حزب ، فكرةً مرعبة لا تبعد عن فكرة السور المدرسي الذي يحجب بهجة الصباح و يهدر على الطالب فرصا عديدة للاستمتاع بأصوات الطيور و الدواجن و الماشية ، بل و الاستمتاع بالحياة في أنقى و أبهى صورها ، فكرة تبدأ أحيانا بنبل و براءة ، ثم مع النمو و التطوّر و التراكم الزمني تتحوّل إلى معتقل سياسي ، إذ يصبح العضو فيها تحت المساءلة و حرج الاختيارات بعد أن كان حرا مختارا ينيخ راحلته في أيّ مكان و متى ما أراد ، لهذا أشعر بالرعب عندما يخطر في بالي أن أنتمي لفكرة تنظيمية تحاول أن تضع لنفسها سياسة و استراتيجية بعيدة المدى و تشترط عليّ أن أسير وفق برنامج معدّ سلفا و بناء على معايير إلى آخر هذه الأعراف التي يصطنعها أفراد قد يكونون في بداية الأمر أصدقاء و لكنّهم يتحوّلون لاحقا إلى جلادين .
يصدق هذا طبعا على كلّ الأحزاب و النقابات و التنظيمات السياسية و الفكرية و الثقافية ، و ما لم يكن المرء مشعّثًا في حياته فلن ينعم بحرية تمنحه القدرة على التفكير و الإبداع و الإنتاج المثمر ، بشرط واحد فقط ، شرط واحد هو أساس حريّته ، أن ينتمي لله في كلّ ما يقول و يفعل ، و بعد ذلك ، كما يقول إخواننا المصريون : هبّ و اغطس ، و حتى هذه ينبغي الحذر منها كي لا تتحوّل إلى حزب الغطّاسين !
و لك أن تتخيّل أية فكرة يجتمع حولها أفراد ، مهما كانت هذه الفكرة في غاية النبل و البراءة ، ثم تلحظ نموّها و اتساعها عبر الزمن ، ستجد هذه الفكرة تتشظّى إلى منظومة أفكار تتلبّس الأشخاص أنفسهم ، ثم تتسع أكثر حتى تصبح إطارا خانقا ، و لهذا فإن أي فكرة غير مدعومة بوحي سماوي و تشريع رباني تبتلع أفرادها فيما بعد و تلتهمهم و ربما استحالوا بسببها إلى وحوش مفترسة .
و لنأخذ فكرة الغطس الآنفة الذكر ، إذ تبدو حسب القول المصري الشائع ، تستند على فكرة الاختيار الحر في العمل ، هبّ و اغطس في أي مكان ، المهم أن تخرج بصيد ثمين ، لكن حتى هذه الفكرة حين يدعمها أفراد قد تتحوّل إلى فكرة جماعية ينادي أفرادها بالانضباط و المنهجية و سنّ الأحكام و القوانين و الأعراف ، لتجد نفسك أخيرا لا تملك حتى حريّة الغطس ، إذ تقتضي قوانين المجموعة و أعرافها أن تغطس بزيّ معيّن و بطريقة معيّنة و في زمن معيّن أيضا و ربما في بحر مشروط ، إلى أن تفاجأ أنّك وقعت فريسة صيد لحيتان مفترسة في عمق البحر ، لأنّه ما من أحد يضمن لك في المستقبل ألا تنحرف هذه الفكرة عن مسارها و ألا تتشظّى و تتحوّل إلى غير ما عهدتَ في بداية الأمر ، كما أنّك لا تضمن أيّ تنظيم بشري عاجز عن إدراك ما حوله فضلا عن أن يدرك المستقبل البعيد الذي قد تغرق السفينة في بحره قبل أن تفكّر في “الغطس” المنظّم !
سعود الصاعدي