غابت شمس دمشق خلف قاسيون وتهيأ المارة لمساء دمشقي جميل، لبست دمشق فستانهـا القرمزي بوشاح حريري على وجهٍ فاتنٍ أخاذ واليوسفي غائب عن: هيت لك، هيت لك.
تهيأت للعابرين وكنت عابرًا وحيدًا أنتظر دوري بلحظة عناقٍ أخير لمعشوقتي دمشق، مضت بي الساعات وطال الانتظار، استيقظت من إغفاءة قصيرة على صوت فتاة دمشقية تترنم بدمشقية نزار:
فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهـرِ الهدبـا
فيا دمشـق… لماذا نبـدأ العتبـا ؟
حبيبتي أنـتِ… فاستلقي كأغنيـةٍ
على ذراعي، ولا تستوضحي السببا
أنتِ النساء جميعًا.. ما من امـرأةٍ
أحببتُ بعدك.. إلا خلتــها كـــــذبا
يا شام، إن جراحي لا ضفاف لها
فمسِّحي عن جبيني الحزن والتعبا
وأرجعيني إلى أسـوار مدرسـتي
وأرجعي الحبر والطبشور والكتبا
هرعت للشرفة بسفح المهاجرين فإذا فتاة في العشرين شقراء افترشت شعرهـا بين العشب، وكل الزهور ألحان، وحولهـا العصافير غِناءْ ظهرهـا محدودب على طرف شجرة سامقة خضراء بيدهـا مذكرة صغيرة كل شيء من حولهـا يغني بغنائهـا هيج صوتهـا، لواعج حزن السنين في قلبي المثقل بالجراح والأحزان عبرت بذاكرتي أيام العزة والكرامة العربية، وحاضرة الإسلام دمشق، فلم أتمالك نفسي والدموع تنهمر كنهر جارٍ على السفح.
كفكفت دموعي وعادت بي الذكرى لأيام المرحلة الثانوية حين كان زميل دراستي أحمد عبد الرحمن ويسي من حلب الأبية السورية، وكنا نتابع الدراسة وفسحتنا في مكتبة المعهد العلمي بالمدينة المنورة.
مرت الأيام وافترقنا وكتب الله لي زيارة دمشق الحبيبة بعد سنين وحنين وقفت بين دمشق وحلب ذكرت زميل الدراسة أحمد فكتبت :
(روحٌ وقلبْ )
لي صديقٌ في دمشق
وحبيـــــبٌ في حلب
ذكريــاتي في النوى
فقد معشــــــوقٍ أحب
خبــــريني فتــنــتي
أنتِ من أيِّ العـــرب
أنتِ بدرٌ في السمــــا
لاح فالجفن اضطرب
سبـَّح القلبُ إله الكون
فيــما قـــد وهــــب
صوَّر الحسنَ وأعطاه
أنـــاســــًا وانتــــخب
ألف بيتٍ صغتــــها
وحـــلاوات الأدب
قلتهـا في حسنـــهـا
ليــتـــني أمُّ وأب
سامحي لاتهجـــري
شاعرًا حين اقترب
ربَّ قلبٍ عـــــاشقٍ
لو حرمتيـه اغترب
لاتلومي في الهـــوى
إنني : روحٌ وقلبْ
مرت ساعاتي سريعة، وأنا في الشرفة أستشرف تاريخ دمشق من غناء فتاة دمشقية صغيرة، وأستنشق عبق التاريخ الدمشقي، وعبثًا أحاول إعادة ساعات الزمن للوراء والماضي من حاضر كئيب ليس فيه إلا رائحة البارود والنار والعنف والدمار.
عادت الفتاة تصدح بدمشقية نزار
هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ وبعـضُ الحـبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرّحتمُ جسدي
لسـالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحـتُم شراييني بمديتكـم
سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا
وما لقلـبي -إذا أحببـتُ- جـرّاحُ
ألا تزال بخير دار فاطمة
فالنهد مستنفر والكحل صبّاح
إن النبيذ هنا نار معطرة
فهل عيون نساء الشام أقداح
مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تعانقـني
وللمـآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمـينِ حقـولٌ في منازلنـا
وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتـاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنـا
فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ “أبي المعتزِّ” منتظرٌ
ووجهُ “فائـــزةٍ” حلــــوٌ و لمـاحُ
هنا جذوري هنا قلبي هنا لغـتي
فكيفَ أوضحُ هل في العشقِ إيضاحُ
كم من دمشقيةٍ باعـت أسـاورَها
حتّى أغــــازلها والشعـرُ مفتـاحُ
أتيتُ يا شجرَ الصفصافِ معتذرًا
فهل تسامحُ هيفــــــاءٌ ووضّــــــاحُ
خمسون عامًا وأجزائي مبعثرةٌ
فوقَ المحيطِ وما في الأفقِ مصباحُ
تقاذفتني بحـارٌ لا ضفـافَ لها
وطاردتني شيـاطينٌ وأشبـاحُ
أقاتلُ القبحَ في شعري وفي أدبي
حتى يفتّـحَ نــــوّارٌ وقـــــدّاحُ
ما للعروبـةِ تبدو مثلَ أرملــةٍ
أليسَ في كتبِ التاريخِ أفراحُ
والشعرُ ماذا سيبقى من أصالتهِ
إذا تـــولاهُ نصَّـابٌ ومـدّاحُ
وكيفَ نكتبُ والأقفــالُ في فمنا
وكلُّ ثانيـةٍ يأتيـك سـفّـــــــاحُ
حملت شعري على ظهري فأتعبني
ماذا من الشعرِ يبقى حينَ يرتاحُ
فجأة اختفت الفتاة الدمشقية، وذاب صوتها ظهر في العتمة المظلمة، صوت صارخ مجهول.
قلْ للذين بأرض الشام قد ولدوا
قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولا
يا شام يا شامة الدنيا ووردتها
يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا
وددتُ لو زرعوني فيك مئذنة
أو علقوني على الأبواب قنديلا
ومن بين قناديل الليل المعلقة بأبواب دمشق القديمة تسللت صورة نزار.. وهيك صار