يعرَفُ الشعر الجاهلي بأسلوبه وأعلامه ، فجزالة لفظه وخشونتها تعبّر عن طبيعة الحياة الصحراوية ، ولذا كانت تلك الفترة -أي العصر الجاهلي- من أخصب الفترات شعرًا ونثرًا، فلا غرو فهي الفترة التي سبقت البعثة الشريفة والرسالة الخالدة ، التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلّم ، فالعرب أصحاب بيان فقد شهد لهم القرآن بذلك ﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا﴾، ويعد امرؤ القيس أشهر الشعراء على الإطلاق جزالة وفصاحة وذيوعًا، ولعل معلقته كفيلة بنيله حظوة المتقدمين والمتأخرين ، والمعروف أن شاعرنا جميل المنظر ، وشاب مترف ، وابن سيّد قومه ، وشاعر مقدّم ، فهذه العوامل كفيلة بانغماسه في الملذات ، واتباع الشهوات ، حتى أصبح حديث فتيات الصحراء ، ولذلك أمعن في الغزل ، والتشبيب بأكثر من معشوقة ، وقد مات مسمومًا عندما خرج لطلب النجدة من ملك الروم ليأخذ بثأر أبيه ، في قصة طويلة تناقلتها صفحات التاريخ الأدبي ، فيقول شاعرنا متغزلًا :
تَـعَـلَّـقَ قَلبِـي طَفلَـةً عَـرَبِـيَّـةً
تَنَعـمُ فِي الدِّيبَـاجِ والحُلِـيِّ والحُـلَلْ
لَهَـا مُقلَـةٌ لَـو أَنَّهَـا نَظَـرَت بِهَـا
إِلـى رَاهِبٍ قَـد صَـامَ للهِ وابتَهَـلْ
لأصبَـحَ مَفتُونـاً مُعَـنًّـى بِحُـبِّـهَا
كَأَن لَمْ يَصُـمْ للهِ يَومـاً ولَمْ يُصَـلْ
أَلا رُبَّ يَـومٍ قَـد لَهَـوتُ بِـذلِّهَـا
إِذَا مَا أَبُوهَـا لَيلَـةً غَـابَ أَو غَفَـلْ
فَقَالَـتِ لأَتـرَابٍ لَهَـا قَـد رَمَيتُـهُ
فَكَيفَ بِهِ إِنْ مَاتَ أَو كَيـفَ يُحتَبَـلْ
أَيَخفَى لَنَا إِنْ كَـانَ فِي اللَّيـلِ دَفنُـهُ
فَقُلنَ وهَل يَخفَـى الـهِلالُ إِذَا أفل
بدأ الشاعر بوصف لافت للمعشوقة عن طريق التصغير فهي طفلة وعربية ، والطفل في اللغة هو من لم يجاوز مرحلة البلوغ ، ولذا اختار الشاعر العاشق حب هذه الفتاة التي لم تزلْ في مرحلة انفجار الطاقة ، فهي تكتنز الجمال والبراءة ، كما أنها تزين مظهرها بأنواع الحرير والمصوغات ، وعبّر بكلمة “تنعّم” لإضفاء حياة الترف التي تناسب مقامه ، فهي أبعد عن الشقاء الذي يرهق الملامح ويهريق البريق ، ونلاحظ طريقة التصوير الفريدة التي سار عليها الشاعر لرسم صورته الشعرية المستنبطة من بيئته الصحراوية ، فرسم لنا إطارًا عامًا للصورة من حجم وملبوس ، ثم تدرج في الملامح بعد تفحص وتمعن شديدين ، فلها مقلة ونظرات تعقّب الحسرات ، وبعد الأوصاف المذهلة أحب تأطير الصورة بقسم وحلف صوري شكلي ، حيث إن المتدين -عادة – لا ينظر إلى المحرمات ، فألصق التهمة بالراهب إمعانًا في تخليد الصفات الفاتنة للفتاة الطفلة ، ولكنها صورة خيالية لوجود أداة الامتناع لوجود “لو”، فما حال الراهب لو رأى مفتونة حامل لواء الشعراء إلى النّار ؟ الجواب لأصبح مفتونًا وأيضًا معنًى بحبها ولتناسى رهبنته وعبادته ، أي صورة الفتاة تمسح جذور التدين عند الرائي، وهذه مبالغة جيدة وتوظيف موفق ، ثم يعود إلى أسلوبه النشط في وصف لقاءاته مع معشوقاته ، فهو كثير التردد على الفاتنات بالليل والنهار على اليابسة وفي الماء ، ثم يصوّر مفاخرة الفتاة به بين أقرانها وأنها أوقعته في شباك يعز عليه الفكاك ؛ بل رمته بأسهم المنابا فخلدته صريعًا ، مكبلًا بحبالها ؛ حبال الحب التي اِلتفت حول نياط قلبه ، ثم يختم المشهد بعبور أبدي جرّاء النظرات التي صوبتها نحو قلبه .
د. نايف بن عبدالعزيز الحارثي
تحليل جميل جعلنا نتصور الحدث وكأنه واقع مشاهد ، أكثر من لمساتك الفنية الأدبية فلقد أتعبت من بعدك .
تحياتي
أدبيات رائعة
وأسلوب أدبي مميز في الطرح