د. فاطمة عاشور

اللون .. البعد الرابع للحياة

الساعة هي السابعة صباحا .. يوم شتوي جديد حيث تسافر موجات برد من حقل إلى مدينة و من صحراء إلى ساحل .. امتد نظري عبر نافذتي إلى خارج الدار .. صورة مختلطة يؤطرها ذاك الصفاء الجميل لصباح الشتاء حيث الرؤية لايعكر صفاءها رطوبة مملة و لا يخدش نقاءها ذرات غبار مندسة ..
تمتم لساني الحمد لله .. أحب ان أحمد الله حين يلامس عيني جمال يوقظ عبوديتي لمن أبدع الجمال .. و هاك طائر غريب يبدو كلوحة فرت من إحدى متاحف الرسم الشهيرة و استقرت فوق سور النافذة .. تأملت عيناي لوهلة .. و الإحساس بجمال الشكل و الصورة يتعدى حدود الجلد إلى الداخل فيتغلغل حتى يمتزج بوجدان علميا لا أدرك موقعه أما معنويا فأصوره آخر نقطة في نطاق البدن فتشيع الراحة و النشوة في روح و جسد و نفس و هو ما أسميه التلذذ بالجمال و هو أمر لا يمتلكه الكثير فالبعض اعتاده و البعض تبلد نحوه و البعض فقد الشعور به .. يا لها من نعمة تستوجب الشكر .. يالفكري المتمرد استرسل في وصف التلذذ بالجمال و ترك اللوحة الشتائية المترفة التي وصفت قبلا ..تساءلت ما الذي منح هذه اللوحة جمالا ؟؟ أهو شكل الطائر ؟ شكل الأشجار؟ نقاء الجو ؟ ربما تضافرت الأسباب لكن أجمل ما جمل الصورة بعناصرها هو وجود الألوان ..
نعم .. فاللون نعمة سكبها الباري على سوداوية الوجود و بياضه الباهت ليكتمل معنى الجمال على كوكب الأرض..
لو كان الشكل موطن الجمال ترى أكان سيأسرنا البحر بجماله لو كانت أمواجه سوداء . !
و هل كانت السماء ستسجن حدقاتنا في زرقتها لو غابت تلك الزرقة !
هل كانت العين ستبقى مهوى الأفئدة و متغنى الشعراء لو تساوت العيون في لون شفاف غير مرئي ..
كيف كنا سننتقي الزهور لولا أن ألوانها تسيطر علينا بتنويم مغناطيسي فنختار منها مانحب. .
هل كان سيظل فاكهة أو خضروات .. هل كان سيظل عاشق للون الوردي من البشرة و اللون الخمري منها ..
أكانت المروج و البساتين و الغابات ستبقى نزهة القلب الحزين ليفرح ..
لو تحول العالم إلى أبيض و أسود. .
أظل فرق بين عصفور و طاووس .. ليلك و زنبق ..
شمس ذهبية و قمر لؤلؤي ..
الألوان .. هي البعد الرابع للحياة في هذا العالم ..
نحتاج للهواء لنبدأ الحياة و للماء لنعيش .. و للغذاء لنستمر أحياء ..
و للألوان لتظل الحياة متعة وزينة .. و من عجائب قدرة الله أن اللون يمنح صفات تميز المخلوق عن غيره في أدق صفاته و خصائصه. . فالفواكه و الخضر ألوانها ليست صبغة اعتباطية بل إن اللون ذاته هو مايعطيها خصائص تميز كل صنف عن الآخر ..
الأرض كرة ملونة زاهية .. و الأصل في الأشكال ليس الأبيض و الأسود ثم سكبت الألوان بل الأصل في هذا الكون هو التلون و التنوع و العودة إلى وحدوية البياض و السواد إنما ينافي نمط الخليفة كما أرادها الله ..
الألوان تشي بالمعنى المستتر وراء وجودها و الذي يحدد بمصطلح واحد هو (التنوع) و يرادفه الاختلاف و التغيير.
و لعل هذا المبدأ لو تم إدراكه و استيعابه لما قامت الحروب و لا ثارت العصبيات .. و لا ظهرت الضغائن جراء رغبة البعض في ان يكون من حوله مثله والا عاداهم .. و ظنه بان الاختلاف هو انشقاق عن القاعدة ..
بينما الحقيقة أن الاختلاف و التغاير و التنوع هو سنة الكون في كل شيء .. في الشكل و المضمون و الفكر و الثقافة و الأساسيات و الكماليات ..
هذا الوعي لايخلق طاغية يسرف في قتل شعبه إن لم يتفقوا عليه ..و هذا الاستشراف لمعنى اللون و زخم الاختلاف لاينتج إرهابيا ولا متنطعا و لا دمويا ولا يفرز عنفا اسريا و لا ينعكس في مرآة العنصرية البغيضة ..
لو اختفى الإدراك لأهمية التنوع لما تطورت البشرية و نضجت عبر قرون و لبقي كل ذي جهل على جهله ..
و هذا الدين يقرر احترام الإختلاف و يقر منطقية التنوع .. حتى الهداية ليست لكل البشر و لو أرادها الله كذلك لجعلها لكن هذا يناقض سنة الكون التي قررها الله.. و ما خلق الناس باختلاف الأصول و جعلهم شعوبا و قبائل الا دليل آخر على هذا الزخم و التنوع والاختلاف الذي قد يبدأ بالألوان و ينتهى باختلاف العقيدة و الدين ..
إذن .. حين تختلف معي.. تذكر الألوان .. فلم نسمع عن لون قتل ذبحا كونه قد استأثر بالاهتمام دون لون آخر ..
اختلف معي بهدوء و سلاسة و رقي .. فلون الحياة الأحمر يسري في العروق و حوله أنسجة عضلات مختلفة في اللون و خارجها عظام بيضاء و يظللها سقف الجلد المتراوح بين الأشقر و الأسود و لم يحدث يوما حرب عنصرية بين ألوان الجسد الواحد ..
و ها هي الغابة تموج بألوان متناغمة و متنافرة و ما سفكت خضرة الشجر حمرة الورد قط ..
يجب علينا بني الإنسان أن نتعلم من ذوي الألوان على هذا الكوكب أن الاختلاف تكامل لا تناحر. .

إن اختلفنا من بعيد أو قريب. .
لاتلمني ..
فالله خلق الكون بألف من صور

و إن بات للأب مسخ من ربيب. .
لاتلمه. .
فذاك نوح ابنه راح غرقا في نهر

فقط لمني إن بادرتني بكل طيب..
و رددت الطيب مرا في
جحود مستمر.

د. فاطمة عاشور

د. فاطمة عاشور

أستاذ مساعد بجامعة الملك عبد العزيز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى