المقالات

كيف نكون قدوة

بُعِثَ صلى الله عليه وسلم في مجتمع مشرك ، تتوفر فيه كل عوامل الضعف والذلة ، وكوَّن من هذا مجتمعًا عزيزًا قويًا ، قال عمر رضي الله عنه: (لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام ، فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله) وقال صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك …) صححه الألباني، فالأنموذج الرباني للقدوة موجود بيننا وفي متناول أيدينا وهو ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وصحابته.
تأملوا سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، في حله وترحاله ، وفي السلم والحرب ، تأملوها مع جيرانه وأصحابه ، ومع المسلمين وغيرهم ، تأملوها في المبادئ والأسس التي أنشأ عليها مجتمعه في مهاجره المدينة ، تأملوا هذا كله تجدون أنه صلى الله عليه وسلم أنشأ مجتمعًا قائمًا على الاعتقاد الصحيح ، والشعور بالمسئولية من كل المسلمين وأهل الذمة ، وعلى حسن التعامل ، والحب والسلامة من الغش والكذب ، وعلى الصدق في القول والعمل ، وعلى التراحم والتواصل ، وعلى العزة والمبادرة ..

فقد نظم صلى الله عليه وسلم شئون مجتمعه الدينية والدنيوية تنظيمًا دقيقًا من أعلى شعبة (صحة العقيدة) الى أدنى شعبة (إماطة الأذى عن الطريق) ، قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان) صحيح مسلم ، وكان تنظيمه شاملًا مبينًا للحقوق والواجبات والعبادات والمعاملات ، وموضحًا للعلاقات على اختلاف دراجاتها من أعلاها (علاقة الإنسان مع ربه) إلى أدناها (علاقه الإنسان بنفسه) وكان بيانه وتوضيحه شافيًا وافيًا ، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون) آية (56) الذاريات ، وقال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) اية (6)التوبة ، وقال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) آية (8-9) الممتحنة ، وقال صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُون مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ : مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ) قال عنه الألباني حسن صحيح ، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههُنا -ويشير الى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم.

فظهر عدل الإسلام ، واختفى جور المعتقدات الباطلة ، وساد الحب والإيثار ، وانتفى التباغض والتحاسد ، وتحقق الأمن والأمان ، وتلاشى الخوف والخصام ، واشرأبت النفوس إلى العلم وطلبه ، ونفرت من الجهل وجاهليته ، واحتكم الناس إلى الشرع ونظامه ، وغاب التحكم إلى الطاغوت وزبانيته.
وعندما استكملت الدولة بناءها وقوي شأنها ، أخذت بنشر هذا الأنموذج لإسعاد البشرية ، وتحريرها من الرق والعبودية لغير الله ، فانتشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والسلوك الحسن ، وانتشرت معه الحرية وعمت السعادة ، فأضحت أمة الإسلام هي الأنموذج الأفضل للتمدن والحضارة ، بل للحياة بكل معانيها ، وسادت العالم بعقيدتها الصافية ، وأخلاقها النبيلة ، ونظامها الرباني القائم على العدل والإحسان ، إلا أن الحال تبدل وهذا من عند أنفسنا ، لأننا فقدنا أو نسينا بعضًا من القيم التي تحلى بها سلفنا الصالح ..
وحتى نكون كما كنا قدوة للعالم علينا مراجعة أنفسنا ، وسلوكاتنا الحياتية والتعاملية ، وعرضها على ميزان الشرع الحنيف ، اقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم ، وفي ظني أنه يلزمنا للقدوة الشاملة توفر ثلاث قيم أساسية:

أولها: العقيدة الصحيحة ؛ لأنها تمنع صاحبها من الزلل والإنحراف والتعدي ، فإذا صحت صح عمل الإنسان وإذا فسدت فسد عمله وإذا فسد عمله هلك ، قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم ، فرتب صلى الله عليه وسلم حصول ثمرة قبول العبادات الشعائرية كالصلاة والزكاة والصيام … على صحة واستقامة العبادات التعاملية كالصدق وحسن الخلق والأمانة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرًا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) رواه البخاري ومسلم -والمقصود هنا كمال الإيمان- ، فالعقيدة الصحيحة صمام أمان ، تجعل صاحبها معتدلًا وعادلًا في علاقته مع ربه ومع مجتمعه ، ويتمتع بنفس راضية مطمئنة.

وثانيها: العلم لأنه مبدأ المعرفة وعكسه الجهل ، سواء كان شرعيًا أو حياتيًا كالطب والهندسة والتاريخ والاقتصاد ، وغيرها من العلوم التي تمكن الأمة من امتلاك أسباب القوة والمنعة ، فالإسلام دين عالمي ، يحث على طلب العلم ، ويدعو إلى التأمل والتفكر ، وعمارة الأرض التي أمرنا بها لا تتم إلا بذلك ، قال تعالى: (…قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ…) آية (9) الزمر، بل هو مفتاح القوة التي أمرنا بإعدادها ، حماية لديننا وأعراضنا.
وثالثها: الخلق لأن الخلق النبيل يمنع صاحبه من فعل ما يشينه ، ويحمله على فعل ما يزينه ، ويجعله مقبولًا عند الآخرين ، ويحملهم على حبه واحترامه والاقتداء به ، وكان إتمام الأخلاق من أعظم مقاصد الرسالة والنبوة ، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا) رواه الترمذي وصححه الألباني.
ولأهميتها فقد اعتنت بها جميع الأديان وحثت عليها ، إذ لا يمكن تصور بقاء أمة بدون أخلاق:

وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَت

 فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ ؛ ذَهَبُوا 

بل هي تؤكد كمال المؤمن واكتمال إيمانه ، فإذا اجتمعت هذه القيم في شخص ما ، حَسُنَ الاقتداء به.
وقد اعتنى بها العلماء والمصلحون وها هو الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة ومستشار خادم الحرمين الشرفين -حفظه الله- يدعو إلى الإصلاح القيمي وفق برنامجه (كيف نكون قدوة؟) وهذا ما سأناقشه في مقالة قادمة إن شاء الله.
والله ولي التوفيق

بقلم/ حامد جابر السلمي
مدير عام التربية والتعليم بمنطقة مكة المكرمة ( سابقًا )

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button