أ.د. عبدالله عيضة المالكي

استنطاق النصوص في بيان أصل العرب

الحمد لله القائل ( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).

بالنظر إلى مجمل نصوص القرآن الكريم وتفاسيرها ، ونصوص الأحاديث النبوية الشريفة التي أشارت إلى تناسل الأنبياء بعضهم من بعض ، من سام بن نوح عليه السلام ، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومحاولة مراجعتها مع مادونته بعض المراجع التاريخية كالبداية والنهاية لابن كثير ، وتاريخ ابن جرير الطبري ، وتاريخ العرب لجبرائيل جبور ، وموسوعة تاريخ شرق الجزيرة العربية لعبدالرحمن العبيّد ، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب للعكري الحنبلي ، وغيرها من المراجع العلمية القديمة والحديثة ، نجد أننا نقف أمام مادونته بعض تلك الكتب من تقسيم العرب إلى ( عرب عاربة ، وعرب مستعربة ) فيه مغالطات كثيرة ، وروايات اسرائيلية أسانيدها واهية وضعيفة ، تحتاج إلى إعادة نظر ودراسة ومراجعة تاريخية استقرائية منصفة .

ففي ضوء قراءة نصوص القرآن الكريم ، وقراءة نصوص السنة النبوية الصحيحة ، سنجد أن العرب كلها عاربة ، ذرية بعضها من بعض ، ولايوجد ماهو مستعرب في الأصل ، والسياق التالي يوضح ذلك ، وأن القول أن إسماعيل عليه الصلاة والسلام مستعرب وذريته مستعربة ، قول لم يقل به أحد في عصر صدر الإسلام لاعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا على لسان أحد من الصحابة ، وماقال به أحد من التابعين ، بل هو منقول إلينا من نقولات أهل الكتاب مما نقله الأخباريون المسلمون ومنهم المفسر والمؤرخ الكبير العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله كما ورد عنه ذلك في تاريخه ، ولكن كان مردهم فيما يتعلق بأنساب العرب قبل الإسلام بالنقل عن الأخباري ابن الكلبي ، الذي كان بدوره يأتي بمصادره من أهل الكتاب.

ولعلنا نعرّف بابن الكلبي هذا ؟
ابن الكلبي : هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، المشهور بهشام ابن الكلبي المتوفي سنة ٢٠٤ هـ.
قال عنه ابن حجر في لسان الميزان “هشام بن محمد بن أبوالمنذر الأخباري النسابة العلامة روى عن أبيه أبي المفسر ، وعن مجالد وحدث عنه جماعة ، قال أحمد بن حنبل إنما كان صاحب سمر ونسب ما ظننت أن أحداً يحدث عنه وقال الدارقطني وغيره متروك وقال ابن عساكر رافضي ليس بثقة ” أنظر تقريب التهذيب ١ / ٤٧٩.
وذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : ” حدثنا عبد الله بن أحمد قال سمعت أبى يقول هشام بن محمد من يحدث عنه إنما هو صاحب نسب وسمر وما ظننت أن أحداً يحدث عنه “أنظر تاريخ بغداد ١٤ / ٤٥.
وقال عنه الإمام الذهبي : العلامة الأخباري أبو النضر محمد بن السائب بن المفسر وكان أيضا رأسا في الأنساب إلا أنه شيعي متروك الحديث يروي عنه ولده هشام وطائفة”
أنظر سير أعلام النبلاء ٦ / ٢٤٨.

وعلى هذا فإننا نأخذ من ابن الكلبي مالايخالف النقل الصحيح والعقل الصريح ونترك مايخالفهما.

فما ورد إلينا واستفاض في كتب الأخباريين من أن العرب على قسمين ، عاربة وهم بنو قحطان ، و” مستعربة “وهم بنو إسماعيل ، كلام فيه نظر ، إذ لاسند له ولامستند صحيح.

فأخلاقياً ، من المعيب أن يوصم نبي من أنبياء الله عزوجل ” بالمستعرب ” وهذا في عرف البشر يعتبر منقصة ومنطلق للذم ،
والله عزوجل قد نزه أنبيائه عن مواطن النقص والذم ، فبعثهم من خيرة أقوامهم نسباً وحسباً ، كي لايجد أعداء دعوتهم مدخلاً قد يحزن أنبيائه ، مما قد يتعرضون له في صدق أقوال الكفار ومنها القول بأنهم دخلاء ومستعربين ، أما رميهم بالسحر والكهانة فإنه من الكذب الذي يعلمه الأنبياء منذ عهد نوح عليه السلام إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم.
فالاستعراب والذي يطلق في حق نبي الله إسماعيل وذريته والتي فيها سيد ولد آدم محمد – صلى الله عليه وسلم – فهي من الواقع الذي يعرفه الأنبياء وأمتهم ، فهل نصدق هذا القول ونوقعه عليهم ، حاشا والله ؟
كيف إذاً والحال على غير هذا المقام ، فالدلائل النقلية بالنصوص الصحيحة تثبت بمالايدع مجالاً للشبهة أن نبي الله إسماعيل عليه الصلاة والسلام هو أصل العرب وبه كانت العرب ولا أحد سواه ؟

وإليك الكشف والتبيان :

ورد في صحيح الجامع برقم ٢٥٨١ من حديث علي بن أبي طالب ” أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل ، و هو ابن أربع عشرة سنة ” الألباني حديث صحيح.

ولعل هذا الحديث يقوي الحديث الذي أورده الحاكم في المستدرك وقال عنه صحيح الإسناد وقد أعله غير واحد من العلماء بابن إسحاق الغسيلي ورد في السلسلة الضعيفة عن إمام أهل السنة أبي عبدالرحمن الألباني رضي الله عنه قال حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم الزهري : حدثنا عمي : حدثنا أبي عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه :” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا ( قرآنا عربياً لقوم يعلمون ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهاما ” كذا قال ” إسماعيل ” أخرجه الحاكم
٢ / ٤٣٩ وقال :” صحيح الإسناد “

ومن المعلوم أن إبراهيم والذي قال عنه الإمامان ، أنه أبو العرب ، ليس من صلبه يعرب بن قحطان.
وبهذا نعلم أن أصل العرب هم من صلب نبي الله إسماعيل – عليه السلام.
فالجزيرة العربية هي موطن الساميين وهم العرب القدماء من ذرية سام بن نوح ، ومنه جاءت سلالة الأنبياء كما جاء ذلك في كتب السيروالأنساب وتاريخ الانبياء في الشرق الأوسط ، وأهمها جزيرة العرب ، فهم كلهم من نسل سام ، وهذا يبين أن الانبياء من ذرية واحدة بعضها من بعض.
قال تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْعَام: ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا ، وكلا فضلنا على العالمين ، ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم …الآية ).

١- فأول نبي من نسل سام بن نوح هو النبي هود عليه السلام ، وموطنه جنوب الجزيرة العربية في الأحقاف وقومه عاد.

٢- النبي الثاني من ذرية سام كان النبي صالح عليه السلام وموطنه منطقة الحجر وتسمى الآن في المملكة العربية السعودية ( بمدائن صالح ) وقومه ثمود.

٣- النبي الثالث من ذرية سام هو ابراهيم عليه السلام وموطنه في أور الكلدانيين بإرمن العراق.

وكل الانبياء الذين جاءوا من بعده هم من ذرية ابراهيم عليه السلام.
وقد اختص الله سبحانه وتعالى منطقة الشرق الأوسط – حسب تسميتها المعاصرة – لتكون هي موطن الأنبياء كلهم ، ومنهم أولوا العزم ، وهذه المنطقة تضم جزيرة العرب كاملة وامتدادها الجغرافي في العراق
والشام ومصر.

وقد يقول قائل : أن الأرمن ليسوا عرباً فنقول أنه وبحكم التجاور الجغرافي بين العراق وأرمينيا ، كان من الطبيعي أن يتواجد الأرمن في العراق منذ أقدم الأزمنة ، وأن من هاجر من قوم صالح وثمود تناسلوا في تلك البلاد.
فقد كتب المؤرخ الأرمني موفسيس الخوريني (القرن الخامس الميلادي)، استناداً إلى المصادر التي اطلع عليها، عن وجود الأرمن في العراق خلال الألفين الثاني والأول قبل الميلاد.
( أنظر كتاب ابراهاميان، وصف موجز لتاريخ الجاليات الأرمنية يريفان، ج٢ ص ٣٥ (باللغة الأرمنية ).
وكتاب ( آرشاك آل بوياجيان ، الأرمن العراقيون ، هيئه للنشر وحرره فارتان كريكوريان، معهد ماشدوتس للمخطوطات القديمة –الماديناتاران، يريفان، أرمينيا ).

فمن العرب المهاجرين من قوم ثمود وقوم صالح من استوطن أرمينيا والعراق والشام
كما ذكر المؤرخ اليوناني (هيرودوتس) في القرن الخامس قبل الميلاد ، فعلاقات أرمينيا والعراق القديمة ، إذ الأرمن كانوا ينقلون بالمراكب عبر نهر الفرات البضائع إلى بابل، حيث كانوا يبيعونها ، واستقر الكثير من هؤلاء التجار وغيرهم من الأرمن في بابل وكونوا جالية أرمنية كبيرة فيها.
كما استقر كثير من الأرمن في العهود اللاحقة في مدن أخرى في العراق، لا سيما بعد أن خضعت أرمينيا للحكم العربي في عهد الخليفة عثمان بن عفان.

وعلى ذلك يكون التقسيم الذي ذكره النسابون والمؤرخون للعرب إلى عرب عاربة وعرب مستعربة تقسيم خاطئ يحتاج إلى إعادة نظر وتصويب وصياغة تاريخية جديدة في ضوء نصوص القرآن وتسلسل أحداث التاريخ التي ذكرناها في ذرية سام بن نوح وجزيرة العرب .
وعليه : ينبغي إعادة النظر في مقولة العرب المستعربة ، لتقديم قراءة قرآنية وحديثية ، وكذلك استنطاق نصوص من كتب التاريخ والسير لتاريخنا العربي المجيد.

فمن خلال فهمنا لخصوصية ديننا وتاريخنا العربي يمكننا أن نسترشد بما بين أيدينا من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية شريفة لتقديم تلك القراءة البديلة عما هو شائع ومتداول في كتبنا ولدى كتّابنا ومثقفينا، من مقولة ( العرب العاربة والعرب المستعربة.

والله أعلم.

أ.د. عبدالله بن عيضه المالكي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى