المقالات

على قناة العربية ومراسلها الاعتذار للمكيين

تداولت مواقع التواصل في الفترة الأخيرة تقريرًا لقناة العربية عرضت فيه تسجيلًا افتراضيًا لنشاط اجتماعي قديم كان يقام في مكة المكرمة يسمى (القيس)، وهو عبارة عن نشاط نسائي سنوي كانت تقوم به السيدات المكيات اللاتي لم يتمكن من أداء فريضة الحج ويبقين في مكة المكرمة -شرفها الله- التي تخلو تمامًا من سكانها في يوم عرفة، فقد كان من أهم عادات المكيين قديمًا أن يذهبوا جميعًا لأداء فريضة الحج وخدمة ضيوف الرحمن، ولا يبقى في مكة إلا أصحاب الأعذار من المرضى أو كبار السن أو السيدات اللاتي في أشهرهن الأخيرة من الحمل، ويبقى مع هؤلاء فقط قريباتهم من النساء لرعايتهم، وكانت السيدات المكيّات يجلسن في مجالس الرجال أثناء غيابهم والتي غالبًا ما تكون أمام منازلهن أو في مركاز العمدة، مرتديات ملابس آبائهن أو إخوانهن كاملة والتي تتكون من الثوب لعمامة والبكشة والمصنف والغبانة…… إلخ، ويجتمع النساء المكيات لحماية مساكن الحجاج ومساكن جيرانهن من أي متربص قد يفد من خارج مكة المكرمة مستغلًا غياب سكانها وانشغالهم بخدمة الحجيج فيعبث بمدخراتها، وتبقى السيدات المكيات في الحراسة يتسامرن ويتجاذبن أطراف الحديث، وفي تلك الأثناء تقوم الفتيات بأداء المزمار لإضفاء جو من الفرح والبهجة والحماسة كما يعتبر أداة للتخفيف من وحشة المكان، فإن ظهر رجل في تلك الأثناء تقوم النساء بمطاردته بالعصا التي يستخدمنها في المزمار لكونه تخلف عن الحج وخدمة الحجيج، بيد أن ظهور رجل في تلك الأثناء أمرًا نادرًا جدًا، فجميع رجال مكة في تلك الأيام يكونون في الحج، ومن يتخلف من الرجال لأي أمر طارئ يلزم بيته ولا يجرؤ على الظهور في الطرقات حتى يبدأ سكان مكة والحجيج في العودة إليها، أما إن كان ذلك الرجل من المتسللين إلى مكة بهدف السطو على المنازل فإنه ينال على أيدي النساء ما يكفيه من الضرب المبرح بالعصا الذي يثنيه عن التفكير في إعادة الكرّة مرة أخرى، هذا باختصار ما كان يحدث في القيس في تلك الأيام الخوالي، إلا أن ما ظهر في تسجيل قناة العربية أمر مخالف لواقع هذه الاحتفالية مظهرًا وجوهرًا، فمن حيث المظهر لم تكن السيدات المكيّات يرتدين الشماغ كغطاء للرأس بل كن يرتدين العمائم، فهي من أهم القطع الملبسية الخاصة بالمكيين، حيث كان ارتداء العمامة هو السائد في حاضرة الحجاز منذ صدر الإسلام وحتى عهد قريب، وهي من أهم القطع الملبسية للعرب قبل ظهور الإسلام وعبر مراحل التاريخ المختلفة، لذا فإن المظهر الذي ظهرت به النساء في التسجيل بعيدًا جدًا عن المظهر الحقيقي للسيدات المكيّات أثناء تفعيل احتفالية القيس في تلك الحقبة من الزمن، أما من حيث المخبر فإن السيدات المكيات لم يكن يؤدين تلك الحركات ولا ذلك التكسر الذي ورد في التقرير والذي يعتبر أداء غير لائق وغير مقبول بل يعتبر إساءة تمتد لتعم جميع السيدات المكيات، فما لا يعرفه مراسل قناة العربية أن السيدات اللاتي كن يحتفلن بالقيس لم يكن يؤدين تلك الحركات المبتذلة التي وردت في تقريره، بل كن يؤدين “المزمار” الذي تتجلى فيه صور القوة والفتوة والحماسة والدفاع بكل معانيها، وهي انعكاس لشخصية المكيين التي تتميز بالمبادرة والشهامة والإقدام، كما أنها لعبة معروفة في معظم دول العالم العربي بتلك القيم أيضًا، هذا ومما زاد الطين بلة الاستشهاد الخاطئ لآيات القران الكريم حيث استشهد المراسل بمصطلح قرآني في غير موضعه مستخدمًا مصطلح “إحدى الحسنيين” وهو الذي يطلق على النصر أو الشهادة وليس على الحج أو خدمة الحجيج قال تعالى: “قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ”سورة التوبة 52
وأخيرًا ختم مراسل قناة العربية التسجيل قائلًا: “فقدت مكة المكرمة خلال السنوات الأخيرة مهرجانها السنوي النسائي وأصبح المنشغلون باقتصاديات موسم الحج أكثر من المؤمنين بقداسة عمل تطوعي كان جزء من ثقافة عامة في أقدس بقاع المسلمين” !!!!

وهنا نسأل مراسل قناة العربية الذي أظهر من خلال تعليقة تأسفًا وحسرة على فقد مكة لمهرجانها السنوي النسائي، متى كان آخر مهرجان أو احتفال بالقيس؟ وما علاقة القيس بالعمل التطوعي وقدسيته؟ وماذا يقصد بأن المنشغلين باقتصاديات الحج أكثر من المؤمنين بقداسة عمل تطوعي كان جزء من ثقافة أقدس بقاع الأرض؟ وهل توجد حاجة لتفعيل القيس الآن؟ هل يمكن تفعيل القيس في مكة المكرمة حاليًا؟ إن ما لا يعرفه مراسل قناة العربية أن القيس يعتبر من العادات القديمة جدًا في التراث المكي، والتي اندثرت لم يعد لها وجود في زمننا الحالي، وأن آخر فترة كان يتم فيها الاهتمام بالقيس كانت منذ أكثر من ثمانين عامًا قبل توحيد المملكة على يد الملك المؤسس، حيث أرسى الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- دعائم الأمن والأمان في أرض الحجاز وطريق الحجيج، فلم يعد للقيس حاجة أمنية أو اجتماعية حقيقية، وما كان يفعل من احتفالية النساء بالقيس بعد توحيد المملكة واستتباب الأمن والأمان فيها كان من باب إحياء التراث وليس لحاجة المجتمع له، كما عليه أن يعرف أن القيس لا علاقة له بالعمل التطوعي في وقتنا الحالي من قريبٍ أو بعيد، فهو نشاط ثقافي اجتماعي دعت إليه الحاجة في تلك الفترة، وقد انتفت الحاجة اليه حاليًا نظرًا لما تشهده شوارع مكة المكرمة -شرفها الله- من ازدحام بسكانها طوال أيام الحج واستتباب الأمن كما أوردت سابقًا؛ لذا فمن المستحيل تفعيل القيس بصورته القديمة في وقتنا الحالي، أما قول المراسل بأن أهل مكة انشغلوا باقتصاديات موسم الحج أكثر من إيمانهم بقداسة العمل التطوعي، فهذا تصريح في غاية الخطورة، وبناءً عليه فإما أن يثبت مراسل قناة العربية صدق مزاعمه أو على قناة العربية ومراسلها الاعتذار للمكيين.

د. وفاء عبد العزيز محضر

مقالات ذات صلة

‫9 تعليقات

  1. للأسف الإعلام وخاصة مجموعة الام بي سي أصبح دورها ترويجي وتسويقي جدا أكثر من رسالة الإعلام السامية وهي التوضيح والحقيقة للمشاهد !!

  2. سلمت يداكي مقال تشكرين عليه وجزاكي الله كل خير بعدد انفاس كل المكيين

  3. سلمت يداكي سعادة الدكتوره وجزاكي الله خير الجزء بعدد انفاس المكيين

  4. بارك الله فيك ياد/ وفاء.. شكرا لدقة ملاحظتك .. وغيرتك على المكيات.. خاصة وأننا صرنا نشاهد كثيرا من الإسقاطات على نساء أهل الحجاز بصفة عامة

  5. بارك الله دكتوره وفاء
    ونحن معك في مااشرتي اليه كتبتي فأوجزتي المعني وبالايضاح
    ويجب بل ونطالب بسرعة الاعتذار للاسائه التي بدرت منهم تجاهنا

  6. مقال ثري بالمعلومات التاريخية عن حالة اجتماعية لها ظروفها، وقد أجدت العرض يا دكتورة، وما حصل من العربية أتوقع هو نتيجة لمجموعة من الأخطاء المتراكمة وكانت النتيجة هذا التقرير المؤسف، فمن كتبه ومن مثله ومن أنتجه ومن ومن ومن …الخ لذا نحتاج باستمرار لمثل هذا المقال المختصر والمبسط عن تراثنا الاجتماعي والثقافي حتى لا نقع فريسة لتشويه التاريخ.

  7. مقال رائع..فيه غيره على نساء البلد الحرام …قل ما نجد ذلك مؤخرا ..بل نجد استهزاء و سخرية للأسف الشديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى