المقالات

قمـــريـّـــة

نافذة – 5 
القمريات هي نوافذ من عبق التراث، نشأت في جنوب الجزيرة العربية، في اليمن وما حولها، تُصمّم فوق النوافذ الرئيسية لتعطي المكان ضوءًا مضاعفًا، وتمنحه شعرية ملونة بألوان الحياة.
نصف دوائر من الجصّ في داخلها أشكال زخرفية مختلفة تُزين بالزجاج الملون فتضفي شكلًا جماليًّا بديع الانعكاس..
تعددت الروايات في سرّ تسميتها بالقمرية، فقيل: لأنها نوافذ تشبه نصف القمر …وقيل لأن الضوء المتدفق منها باردٌ كضوء القمر …وأضيف أنا رواية ثالثة إن أجاز لي المجاز …فبين النوافذ والمجاز علاقة عشقية ورحلات سرية تنفذان منها إلى عوالم لا مرئية، تتنفسان الهوى والهيام، وترشفان صافي الغمام. أجلُّ ما في تلك العلاقة أنها طهور، ينفض ليلها بلا وزر ولا خطيئة، وينشق نهارها عن أجمل الوعود.
القمرية هي ذلك القلب النابض بالحب الأسطوري دون مقابل، فألوان زجاجها من الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر قادم من عمق التجارب تقدمها في طبق من حكايا الليل تهدهد بها الوليد، وتروي بها عطش الحفيد وتزود بها خيال الطفولة السعيد المتلهف للحياة والألوان، والعوالم العجيبة ذات الأحداث الغريبة العجيبة.
هي ذلك الضوء المساند، الذي يقدم الدَّعم للنافذة الأم، وما ذلك التقوّس الذي يعلو ظهرها المحدب إلا تباريح الزمن المخضب بالتجارب فلا تزال تعطي بسخاء لتمنح المكان ماقصرت عنه النوافذ والجدران، وحين يأتي المساء وترى النوافذ قد شرقت بمتاعب النهار وأرخت الستار .. يعلو صياح البراعم الندية: “هيا احكِ لنا يا قمرية، حكاية البطل والسلطان، الملاك والشيطان، العدل والطغيان “…
وقتذاك تُطفأ السرج، وتَخفُت الأضواء، وتُخفَض الأصوات .. ويبقى ضوءكِ يا قمريّة باردًا وهادئًا ملونًا وهائمًا، حينها تعذب الحكايا ويرقص الخيال منتشيًّا على ضوئك البديع.
ما إن تبدأ القمرية حكايتها بصوتها المرتجف، وتشرع في البداية المحببة قائلة:”كان يا مكان .. في قديم الزمان.. كان هناك سلطان حكم سبعا من البلدان، وله قصر عظيم البنيان” إلا وتجد البراعم في صراع مع الأهداب الناعسة .. تقاوم وتقاوم، ولا يطول بها اللبث حتى تبيت صريعة السلطان.. سلطان النوم القاهر قبل انتصاف الحكاية.
تعجز أمومة النوافذ أن تحذو حذوك يا قمرية … فمذاق الخيال منك له نفوذ عجيب .. يسلب عقل اللبيب؛ لذا علوت فوق النوافذ فكنت تيجانها وأجفانها ألوانها وأفنانها.
بذكائك الخفي ترفئين تصدعات الأجيال، وتعالجين أدواء النفوس، فتعطين كل برعم ترياقه في قالب من اللغة والخيال.. حتى إذا نام، وذبحت له زوجين من الحمام .. رفرف بالجناحين وهام في بحور بلا شطآن.

اليوم تشكو البيوت من غيابك يا قمرية.. وتشكو من غياب الألوان فما عادت تؤمن إلا باللون الرمادي، وقصرت سقوفها فهرب منها الخيال، وأسلم القياد للواقع المتردي، فذهلت البراعم وراحت تسترضع خيالًا من بيئات بعيدة غريبة عن روحها وجذورها وتربتها الخصيبة …
تنكّر الزمان لضوئك يا قمرية .. فحزن القمر .. فما عادت تخبو الأضواء لحضرته .. وما عادت تطفأ السرج لهيبته.. وما عادت تسمع الأصوات لحكمته.. فهربت الحكايا تجر أذيال الخيبة والقهر والهوان.
حتى الإنسان تنكر لضياء القمرية فعزلها عن مساكنه، وأبعدها عن براعمه.. وزهد في عطائها، وسخر من ألوانها. وحتى لا يتهم بالجحود قام وحنطها في المتاحف، وبخرها بأجود أنواع العود؛ لتغدو شاهدة على كرامة التراث المهدرة .. فأضحت صامتة بلا روح، باهتة بلا ضوء، شاحبة بلا لون.. فذبلت البراعم، وسقمت النوافذ، واحتضر المكان …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى