اعتذر صديقي الذي تعرفت عليه حديثًا عن قبول دعوتي لمناسبة ما بحجة أنه اشترى تذكرة لحضور مباراة كرة قدم لفريقه المفضل، وما أن عرفت اسم فريقه حتى بدأت في استفزازه بعبارات تهكمية تطلق على فريقه، وانتظرت ردة فعل معاكسة منه ولو بإطلاق عبارات مماثلة على فريقي لكنه لم يفعل، فاستفزني بروده القاتل وعدم حماسه للدفاع عن فريقه، وواصلت محاولاتي في جرّه لنقاش حاد في الكرة واتهامات متبادلة وتخوين للتحكيم وتشكيك في البطولات وتهديد بمقاطع فيديو تثبت فشل فريقه ونجاح فريقي، ولم يُعِرْني جبل الجليد “صديقي الجديد” أي اهتمام مما زاد حنقي وغضبي.
وعندما لاحظ صديقي الممل إصراري على افتعال معركة معه كانت من جانب واحد فقط، قال لي : ببرود شديد يا أخي لا تتعب نفسك فأنا (مالي في الكورة )، ولا أناقش أحدًا فيها.
فزاد عجبي منه وسألته : إذن لماذا تشتري تذكرة وتذهب لحضور مباراة فريقك ؟ فجاء جوابه صادمًا: أنا يا عزيزي أذهب للملعب كل شهرين أو ثلاثة أشهر لحضور مباراة لفريقي من قبيل المتعة والنزهة والتغيير والحماس لا أكثر، ولا يزعجني أبدًا هزيمة فريقي لأن الرياضة فوز وخسارة، كما أنني أفرح لفوزه بالتأكيد، وذهابي للملعب هو بحثٌ عن متعتي الشخصية ومن أجل مشاهدة الملعب وتجهيزاته، والجماهير بحماسها وتشجيعها، والقضية عندي أشبه بنزهة برية أو زيارة للحديقة أو رحلة بحرية. هذا كل مافي الأمر يا صديقي، وأردف بقوله: إنه لا يتابع القنوات الرياضية نهائيًا ولا يقرأ الصحف الرياضية ولا يشارك في مجموعات التواصل الاجتماعي الكروية، وهو بعيد كل البعد عن كل ما له علاقة بالكرة. والأمر بالنسبة له ليس سوى مباراة يحضرها في الملعب فقط إذا سمحت له الظروف بذلك.
ثم واصل صديقي الحديث بقوله دون خجل: إنه لا يفقه شيئًا في الأمور الفنية للكرة، وقال ضاحكًا: لو كنت أجيدها لعملت مدربًا لأحد الأندية، كما يُقِرْ بقصور خبراته الإدارية لتسيير أمور الأندية الرياضية، ولو كان يمتلك هذه الخبرة لعمل ولو متطوعًا في إدارة فريقه المفضل على أقل تقدير، والشيء الغريب أنه يقول بملء فيه إنه لا ينشغل بالتحليلات التي تسبق المباريات والبرامج بعدها لأنها من وجهة نظره لا تقدم ولا تؤخر وليس فيها ما يمتع، وهي لا تعدو أكثر من كلام يضيع الأوقات بما لا يفيد، ولأن من يمارسوها يؤدون عملًا يتقاضون عليه أجرًا وهي أشبه بوظائف، وقد لا يكونون من ممارسي كرة القدم أصلًا ولا علاقة لهم بالكرة من قريب أو بعيد.
ورفض صديقي رفضًا قاطعًا الدخول في المهاترات التي تحدث بين الجماهير وقال: إنّه يربأ بنفسه وبي أن يتبادل معي أو مع غيري الشتائم التي يفهم منها ما تعنيه بوضوح، فكلمة “خدمي” تعني له العنصرية والعصبية القبلية المنتنة، و”ضفدع وطحلبي” تعني له تنابز بالألقاب، وكلمة “طواقي” يفهم منها السخرية، وكلمة “فقراوي” يفهم منها الاحتقار إلى غير ذلك من الألفاظ والعبارات التي يراد منها الاستخفاف بالطرف الآخر والانتقاص منه.
وبينما كان صديقي الجديد يحاول إقناعي برؤيته المنطقية والمقنعة للكرة ومنافساتها وما يصاحبها في أيامنا هذه من سخافات تحت غطاء التنافس الرياضي سرح خيالي مع صديق قديم يختلف اختلافًا جذريًا عن صديقي الجديد ويتناقض معه في كل ماذكره، فذلك الصديق يهتم بالكرة والمباريات اهتمامًا منقطع النظير يستحوذ على جميع شؤون حياته، فهو يقرأ جميع الصحف الرياضية بحثًا عن أخبار تخص فريقه أو تنال من المنافسين، ويشمت بهزيمة الفرق المنافسة أكثر من فرحه بفوز فريقه، ويقضي الساعات الطوال قبل المباريات لمشاهدة التقارير والاستماع للتحليلات ممن يدعونهم الخبراء ويهتم برصد توقعاتهم، ثم يتابع المباريات باهتمام شديد، ويتنقل بعدها من قناة لقناة لمشاهدة البرامج الرياضية التي تناقش المباراة والحالات التحكيمية والتصريحات والتعليقات، ثم يدخل لمواقع التواصل الاجتماعي كتويتر والفيس بوك والواتس، ويبدأ في المشاركة في الوسوم الخاصة بالمباراة والنقاشات المتداولة ويكون له النصيب الأكبر في الرد على خصوم فريقه والسخرية منهم إن كانوا مهزومين، ويمارس هواية التشكيك في نزاهة التحكيم والحديث عن الحظ إذا كان منافس فريقه هو الفائز، جميع نقاشاته مع الأصدقاء عن الكرة فقط، وغالب تغريداته تتناول الكرة كذلك، حتى مشاركته في المناسبات الاجتماعية تحددها المباريات ومواعيدها ونتائجها، وهكذا تمضي حياة ذلك الصديق ركضًا وعبثًا وراء المستديرة التي تركلها الأقدام.
إذا حدثته عن السياسة وما يُحاك ضد بلادنا من مؤامرات الأعداء، يحدثك عن ما يحاك ضد فريقه من الفرق الأخرى، تكلمه عن الأوضاع الاقتصادية وتأثيرها على حياة الناس ومعيشتهم، يكلمك عن الصفقات التي سيعقدها فريقه مستقبلًا.
قد يجد هذا الصديق صعوبة كبيرة في الإجابة على سؤال ديني بسيط عن أركان الصلاة، وقد يعاني جدًا في إعراب جملة خبرية من بضع كلمات، وقد يتعرَّق لحل مسألة حسابية سهلة، لكنه يستطيع باقتدار أن يسمي لاعبي الدوري جميعًا والمراكز التي يلعبون فيها، هذه هي الثقافة التي يؤمن بها صديقي ويفخر بها ويسعى لتنميتها.
وبعد مقارنة عميقة بين فلسفة صديقاي الرياضية، وجدتني أميل وبقوة لرؤية الصديق الجديد الذي يستمتع بمباريات كرة القدم كما يجب ولا يتجاوز ذلك كثيرًا، كما يستمتع بباقي متع الحياة، ويعطي الأولوية لأسرته وهي الأهم ولعمله وهو المهم ولمستقبله ولكل ما يحيط به في هذه الدنيا الفسيحة، ووجدتني بقناعة كبيرة أنفر من طريقة صديقي الآخر الذي انقاد مع القطيع وأوقف حياته على كرة لا تسمن ولا تغني من جوع إلا لممارسيها من اللاعبين وذلك بعقود احترافية تصل للملايين، ولقنوات تلفزيونية تكسب من الإعلانات التجارية الكثير طالما استطاعت جمع أكبر عدد من قطعان المشاهدين، ولإعلاميين مارسوا الإثارة وإشعال روح التعصب بين الجماهير فوجدوا في هذا المجال رواتب شهرية مجزية ومكافآت لا تتوقف. وكل السمن لأعداء وجدوا فيها ما يشغل شباب الأمة عن قضاياه المصيرية وعن النهضة المنتظرة للأوطان.
عفوًا أيتها الكرة فرغم إثارتك ومتعتك فأنتِ لاتستحقين أن تكوني كل حياتي؛ لأن الحياة أثمن من قطعة من الجلد المنفوخ.
همسة:
إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.
طارق عبد الله فقيه