يشيع في مجتمعنا المعاصر نعت الفتاة العذراء غير المتزوجة بالآنســـة ، بينمــــــا يُقال لها سيّدة إذا تزوّجت وصارت ذات بَـعْـل .
وكم من مرّة خاطبنا امرأة فيها بالآنسة ، فصححت وقالت: عفوا ، أنـــا سيدة ، وكم مرة خاطبنا امرأةً ب(يا سيدة ) فاعتذرت أنها آنسة !
فهل الأمــر كذلك في لغة الجذور ؟
الآنســــــــــــة ، فاعلة من الجذر الثلاثي (أ ن س) أي اسم فاعل من الفعل (أنس) .
واستأنس ضد استوحش، والجانب الأنسيّ هو الداخلي ، ضد الوحشي أي الخارجي . وآنَسَ الشيءَ: أَحَسَّه وأبصره .
وآنَسَ الشَّخْصَ واسْتَأْنَسَه: رآه وأَبصره ونظر إِليه؛ أَنشد ابن الأَعرابي:
بعَيْنَيَّ لم تَسْتَأْنِسا يومَ غُبْرَةٍ،
ولم تَرِدا جَوَّ العِراقِ فَثَرْدَما
وقال ابن الأَعرابي: أَنِسْتُ بفلان أَي فَرِحْتُ به، وآنَسْتُ فَزَعاً وأَنَّسْتُهُ إِذا أَحْسَسْتَه ووجدتَهُ في نفسك.
وفي التنزيل العزيز: ((آنَسَ من جانب الطُور نــاراً)) سورة القصص / 29؛ يعني أنَّ سيدنا موسى أَبصر ناراً، وهو الإِيناسُ.
وآنَس الشيءَ: علمه. يقال: آنَسْتُ منه رُشْداً أَي علمته.
وآنَسْتُ الصوتَ: سمعته.
وقوله تعالى: ((يا أَيها الذين آمنــــوا لا تَدْخُلـــوا بُيوتاً غيرَ بُيوتِكم حتى تَسْتَأْنِسوا وتُسَلِّموا على أهلها ….)) سورة النور / 27 ؛ قلنــــا : الاستئناس آكد وأشمل من الإستذان فهو يعني الاستئذان والتسليم واستشعار موافقة أهل البيت على الأذن لك . وقال الزجاج: معنى تستأْنسوا في اللغة تستأْذنوا، ولذلك جاءَ في التفسير : تستأْنسوا فَتَعْلَموا أَيريد أَهلُها أَن تدخلوا أَم لا ؟(1).
وقال الفراءُ: هذا مقدم ومؤَخَّر إِنما هو حتى تسلِّموا وتستأْنسوا: السلام عليكم أَأَدخل؟ قال: والاستئناس في كلام العرب النظر. يقال: اذهبْ فاسْتَأْنِسْ هل ترى أَحداً؟ فيكون معناه انظرْ من ترى في الدار؛أما لفظ الآنسة بالذات فقد ألفته العرب واستعملته ، وتابعوا معي :
قال القرّاء: قلت للدّبَيْريَّة: أيْشٍ قَوْلَهُم: كيف ترى ابن إنسِك -بالكسر-؟، فقالت: عَزَاه إلى الإنس ( أي البشر ) ، فأما الأُنسُ ( بالضم) عندهم فهو الغزل.
وكلبٌ أنوسٌ: وهو نقيض العقور، وكِلابٌ أُنُسٌ.
وقال الليث: جاريةٌ آنسة: إذا كانت طيبة النفس تحب قُربَك وحديثك. أي حديثها ماتع لطيف لا تملُّــــه النفس ، وقال الكميت:
فيهنَّ آنسةُ الحديثِ خريدَةٌ
ليسَتْ بفاحِشةٍ ولا مِتْفــــــــالِ
أَي تَأْنَسُ حديثَك ولم يرد أَنها تُؤْنِسُك لأَنه لو أَراد ذلك لقال مُؤْنِسَة.
وجمعها: الآنساتُ والأوانِس، قال ذو الرمّة:
فكيفَ بميٍّ لا تواتيكَ دارهــــــــــــا
وَلاَأَنْتَ طَاوِي الْكَشْحِ عَنْهَا فَيَائِسُ
ولم تُنْسِنِي مَـيّاً نَـوى ذاتَ غَـربةٍ
شطونُ ولا المستطرفاتِ الأوانِسِ
إِذَا قُلْتُ أَسْـــلُو عَنْكِ يَامَيُّ لَمْ أَزَلْ
مُحِلاً لِدَارٍ مِنْ دِيَــــــارِكِ نَــاكِسُ
ويطالعنا في الباب أسماءُ عَـلَمٍ ، نحو : أنَس وأنيس وأُنيْس وأنيسة ، وأبرزها اسم (أنَس) خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه أسمينا حفيدنــا الغالي حماه الله .
أمّــا لفظ السيدة ، مؤنث السيد فهو معجميّــــــاً يوحي بأنه عكس الأَمَـــةِ “العبدة”.
وسمى الله تعالى يحيى عليه السلام سيِّداً وحصـــــــــوراً؛ أَراد أَنه فاق غيره عِفَّـة ونزاهة عن الذنوب. وقال الفـــــــرّاء: السَّيِّدُ الملك والسيد الرئيس والسيد السخيُّ الجواد ، وسيدُ العبد مولاه ، والأُنثى من كل ذلك بالهاء.
وسيِّدُ المرأَة : زوجهــا.
وفي الحديث الشريف: يا رسولَ الله مَنِ السيِّد؟ قال: يوسفُ بن إِسحقَ بن يعقوبَ ابن إِبراهيم، عليهم السلام، قالوا: فما في أُمَّتِك من سَيِّدٍ؟ قال: بلى من آتاه الله مالاً ورُزِقَ سَماحَةً ، فأَدّى شكره وقلَّتْ شِكايَتهُ في النَّاس.
وفي الحديث الشريف أيضاً: كل بني آدم سَيِّدٌ، فالرجل سيد أَهل بيته، والمرأَة سيدة أَهل بيتها.
و جاء في النهاية لابن الأثير ” مادة (س و د) ” أن السيد يُطْلَق على الرَّب والمالِك والشريف والفاضـل والكريم والحليم ومتحمِّل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدَّم. وأصله مِن ساد يسود فهو سَيْوِد، فقُلِبَت الواو ياءً لأجل الياء الساكنة قبلهـــــــــا ثم أُدْغِمَت . فهو يُطْلَق على الإنسان بالمعنى الذي يناسبه من هذه المعانــي، بل إنَّــــه يُطْلَق على غير الإنسان، كما قال ابن الأثير: ” ثَنِىُّ الضأن خيرٌ من السَّيِّد من المَعْـز ” أي المُسِن وقيل الجليل وإن لم يكن مُسنًّا .
أ ـ فقد أُطْلِقَ على الأنبياء كما قال تعالى عن يحيى بن زكريّا(وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحِين ) ( آل عمران : 39 ) وجاء في النهاية لابن الأثير: قالوا: يا رسول الله من السَّيِّد؟ قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاةوالسلام.
ب ـ وأُطْلِقَ على بعض الصحابة، حيث قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أبي بكر وعمر ” هذان سيِّدَا كُهولِ أهلِ الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين ” رواه الترمذي وغيره ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 32 ) . وقال عن الحسن والحسين ” إنهما سيِّدا شباب أهل الجنة ” أخرجه الترمذي والحاكم . بل قال في الحسن ” إن ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ” رواه البخاري ( المرجع السابق ص 126 ) .
وجاء في (النهاية في غريب الحديث والأثـر)لابن الأثير أنه قال في سعد بن عبادة: ” انظروا إلى سَيِّدكم ” . وفي روايةٍ للخطابي ” انظروا إلى سيِّدنا هذا ما يقول ” . وقال للأنصار، وقد أقبل عليهم سعد بن معاذ ليحكم في بني قريظـــــــة بُعيد غزوة الأحزاب : ” قُوموا إلى سيِّدكم ” رواه البخاري
وهكذا فالسيدة هي المرأة وفق المعاني السابقة من الجذر (س و د) ولا علاقـــــــــة للسيدة بكونها ذات زوج أم عذراء ، أما الآنسة فهي لطيفة الحديث ذات أنس لا يُمَلّ
وذات دماثة خلق ودَلّ ..
ولا علاقة لوصف الآنسة بالزواج أبدا وانما هو عُرْف تعارفه الناس وحسب .
—————– حاشية :
(1)-لا حظْ أنَّ الزّجّـــاج غالط نفسه هنا .
د. محمد فتحي الحريري