بانوراما الحزن المالح
البحار عادة يغني حزنه لأول نجمة تلمع له في السماء . حتى إذا ما تلاشت أخذ يفتش عن أخرى يروي لها حكاية الملح الذي هجر البحر و استوطن جلده .
الروائي عمرو العامري بحار من هذا النوع .. لا يملك غير الحكايات ، وشراع مثقوب لا تبالي به الريح ، وقلب مصاب بداء الترحال في وجوه البسطاء الذين لم يلتفت إليهم أحد .
في روايته “جنوب جدة .. شرق الموسم” الصادرة مؤخرا عن دار الساقي يحاول هذا البحار العاثر الذي رماه البحر يوما لليابسة فأعادته للملح .. فظل يراوح وحيدا بين الغرق والنجاة . يحاول في روايته جر الماضي وكأنه يجر صخرة فرعونية ليثبت لنا أن الحكايات القادمة من قعر الماضي تكون محاطة بالكثير من الدموع ، والفقد ، ولعنات الغياب .
العامري في هذه الرواية جاء بنا ليشاركنا حروفه كعادة الكرماء الذين لا تطيب لهم الحياة بغير دفء الآخرين . هو كتب بعضه .. وكتبنا .. وكتب حتى الذين لم يمنحهم القدر زاوية من نور ليلوحوا للحياة .
أنا هنا بعيد عن النقد .. لأنه مهمة شاقة لا أجيدها .
أنا هنا فقط أفتش عن الوجع الذي رمم جسده هذا البحار وأعاده للحياة بعد كل هذا العمر . وعلى ما يبدو أن عمرو العامري أصبح علامة معتمدة لماركة “الحزن الأصيل” الذي كلما أطفأ العمر سراجه أشعله بحكاية من صدره .
في هذا العمل يكتب العامري عن “المخاضرة” الذين ابتلعتهم الأيام حتى وكأنهم ما عادوا هناك كما أننا اليوم هنا . اختفى ضحكهم ، وغناء حناجرهم ، وركض أطفالهم .. واختفت حتى مواسمهم . ولكنه قدرهم أن يأتي بحار حفظ غناء الموج والنوارس ليكتبهم وكأنهم معنا هنا .. وكأننا معهم هناك .
يحملنا العامري في الرواية إلى تلك العوالم المليئة بالصور والأصوات والصبر في “القاسمية” . إلى أعشاش المخاضرة حيث الكل يرقص .. الكل يحاول أن يلون حنجرته بالغناء من أجل التمسك بالحياة . في الرواية يمسك العامري بأيدينا ويسير بنا بصمت بينما كل شيء حولنا يتحدث .
أحيانا لا تحتاج للكثير من الجهد من أجل فتح ذاكرة الماضي . كل ما في الأمر القليل من حزنك الذي رافقك يكفي للعودة إليه .
الوطن لم يكن يعني للمخاضرة سوى البقعة التي تستوطنها أقدامهم . والمكان الذي يدفنون فيه حكاياتهم إلى جوار الموتى في المقابر وكأنهم يعلمون جيدا أن هذه الأماكن المنسية تشتاق للأحياء أيضا .
يقفز العامري في الأحزان بخفة .. ينقر بأطراف أصابعه فوق الوجع .. يكتب بصبر وكأنه يسحب ظهره فوق الشوك. في ثنايا الرواية نسير في نفس الطرقات التي سار فيها محسن .. نمارس طقوس الحصاد ونغني للمطر.. ونراقب الطيور كي لا تغتال السنابل . تلقائيا نجد أنفسنا نتدلى مع الكلمات .
صنع العامري من المساء في الرواية شخصية بارزة .. وكأنه أرد أن يجعل منه شاهدا على تلك اللحظات . والمساء لا يغيب .. يأتي في موعده كل يوم يحمل تلك الملامح في ردائه الأسود .
المساء هو الهروب من الضجيج الهادئ في ذاك الزمان .. العودة للملمة النهار وادخاره ليوم آخر . في المساء لا شيء يتجاوز ضوء “الفانوس” الصغير حتى تلك الأصوات البعيدة التي كان يأتي بها المذياع .
أما “الموت” فهو يبرز بكامل هيبته في زوايا الرواية .. يلاحق العامري وكأنه ظل . والملاحظ أن العامري كان يبكي حقيقة وهو يكتب . بكى بعيني محسن وهو يودع (خديجة) ومنديلها الملون . وبكى خاله (حسين) الذي لم تنصفه الحياة . وبكى أمه التي وجدت نفسها محاطة بالفقد . الفقد الذي يراه العامري ابنا بارا للحزن المالح والدموع المرة . لقد كانت الصفحات مالحة تفوح منها رائحة الطين اليابس . الفرح مجرد شبح عابر يظهر ويختفي سريعا .. فرح بلا أب وأم . ما بين الصفحة الأولى والإهداء الكسير والصفحة الأخيرة طريق محاط بوجوه شاحبة .. أجساد ظلت معلقة فوق حبال الصبر والخوف والموت . هو نفسه الطريق الذي كان يسلكه “المخاضرة” بحثا عن يوم آخر للحياة . الحياة التي خانت خديجة وهي لا زالت تحلم بالعودة لمنزلها .
الطريق من شرق الموسم إلى جنوب جدة لم ينشأ مصادفة . بل كان طريقا للهرب من ويلات وأحزان ذر أصحابها عليها التراب ومضوا نحو مساحة أوسع لا يعرفهم فيها أحد . هناك في الجنوب يوجد متسع للاختباء من خيبات القرية ووجع الخيانة .
لم يكن اختيارا سهلا أن تصنع من نفسك شخصا آخر وذاكرتك محملة بكل تلك الأحزان . ولكنها فرصة لا تأتي إلا مرة واحدة . ما بين الجنوب والشرق تتبدل الملامح واللهجات والأسماء .. وربما يصنع المال حقيقة أخرى غير التي كتبها القدر . ولكن تظل الذاكرة محتفظة بالأشياء كما هي .. كما كتبها عمرو العامري وألقاها إلينا وهو يعد شراعه مجددا نحو حزن آخر .