عبدالرزاق حسنين

الحارة والأتاريك..تراث !

بفضل الله تعالى، تشتهر المملكة بالكثير من المعالم الأثرية، التي يسجل التاريخ عبقها الفواح، وأطلالها الجميلة بعراقة الماضي الأصيل، بيوتات وقلاع تمثل جزءاً من تراث ماضي الآباء والأجداد، وتشهد قصة كفاح بنائها ذي النقش الجميل، الذي بلا شك يدل على حبهم للجودة والإتقان، بيوتات إمتزج فيها الطين والحجر والخشب، بما يجعلها مفخرة لتلك الأجيال، مع إختلاف عناصر ومواد بنائها، بما يتواءم وطبيعة بلادنا المناخية وتضاريسها المختلفة، على إمتداد وطننا المترامي الأطراف، إنه حقاً الزمن الجميل الذي شهدته بيوتاتنا القديمة المتلاصقة، بأزقتها الضيقة السائدة في تلك الحقبة التأريخية، المعتمدة على ما تجود به طبيعة كل منطقة، جبلية كانت أو سهلية أو ساحلية، عشقتها القلوب وتغنى بها الشعراء، لما تفوح به من الذكريات الجميلة، نعم إنها حارات بلادي المنتشرة في كل مناطق المملكة، ومن الطبيعي أن يرتبط الإنسان بماضيه، الذي يعني له الذكريات والتاريخ والهوية والتراث، لأمجاد لا تنفصل عراها عن حاضر الانسان ومستقبله، وللحي السكني القديم ببساطته وساحاته الترابية ومبانيه الطينية والحجرية، أشجان تدمع لها عيون من يتذكرون تلك الأجواء الأسرية، وفي جنباتها الدفء والمودة والجلسات الهادئة، التي ألفها الأهل والأصحاب، بعفوية نكاد نفتقدها في زمننا الحاضر، الذي طغت عليه تلك المخططات السكنية والأبراج الإسمنتية الشاهقة، وما شدني للحنين والكتابة عن الحارة وأتاريكها، إذ تشرفت بزيارة إحتفالية الحارة المكية بمكة المكرمة، التي أدارها بإحترافية الشيخ المكي عادل أمين حافظ، وقدم برامجها المسرحية الإعلامي المتألق ماجد المفضلي، وبرعاية كريمة من إمارة المنطقة وأمانة العاصمة المقدسة، وكذلك تشرفت بزيارة إحتفالية جدة التأريخية، في نسختها الرابعة وشعارها(أتاريك جدة)، الذي يرمز لحياتنا القديمة قبل الكهرباء، وأشرف عليها بعناية وحسن تنظيم يفوق الوصف إبن مكة البار زكي عبدالتواب حسنين، وبرعاية كريمة من سمو محافظ جدة، صاحب المبادرات الجاذبة للسياحة الوطنية، بما يرتقي ونشاطات هيئة السياحة والآثار، وروح الشباب في أميرها، المتطلع لمزيد من الإستثمارات السياحية في ربوع بلادي، وإشراف أمانة جدة والجهات الأمنية، تجولت في حارات مكة وجدة فوجدتها متشابهة، للترابط التأريخي والعائلي بينها، وتلك البيوتات القديمة التي ساهمت الجهات المعنية بالحفاظ على أطلالها، لتبقى شاهداً ودليلاً على عراقة الماضي وأصالة المنطقة وأهلها، تجولت في الحارات وعاد بي الحنين لزوايا بيوتاتنا القديمة، وأهلها الطيبين البسطاء في مأكلهم ومشربهم، ليبقى عبق أطلالهم يفوح ليذكرنا ببعض المسميات التي اندثرت، وعلى سبيل المثال، تحوي بيوتاتنا القديمة على(الديوان) ويسمونه المجلس لإستقبال الضيوف، ويشتمل عادة على (منقل) الجمر وأدوات القهوة والشاي، و(المركّب) المطبخ الذي رغم بساطة(دوافير) القاز المستخدمة فيه، إلا أنه كان مصنع لأطيب المأكولات، كانت تدير شؤونه أمهاتنا وأخواتنا أجزل الله لهن المثوبة، و(الدهليز) هو المدخل الرئيسي للبيت بذلك الباب الخشبي وأقفاله المتعددة، و(المبيت) سطح البيت يستخدمونه للنوم في ليالي الصيف، و(للناموسية) ذات القماش الخفيف قصص وحكايات أنجبت العشرات، و(الروشان) شبابيك منقوشة بحرفية عالية، بها فتحات تداعب نسمات الهواء العليل، تضاهي المكيفات الحالية، وتحافظ على خصوصيات أهل الدار، تناظر من خلفها حواء ذلك الزمن بعفافها، ومشهد(مركاز) العمدة ودوره في حفظ الأمن حاضر في تلك الحارات، وشاهدت أيضاً(الكتاتيب) ودور العلم و(الفلكة) والمعلم، الذي كانوا ينادونه بالفقيه، بإعتباره موسوعة في علوم الدين والحساب والفصحى، وفي (السقا) بائع الماء المتجول بين الحارات، إشارة واضحة إلى إهتمام ذلك الجيل بالنظافة، المصحوبة بما ينادي به المسئولون لترشيد الإستهلاك، وحتى البسطات والدكاكين والباعة الجوالة، كانت حاضرة بعناية في مهرجانات الحارات، التي لمست فيها إقبال عائلي لكل فئات المجتمع الثقافية والعمرية، بما يؤكد تعطشنا إلى تلك الإحتفاليات التي تنمي ثقافة الأجيال الحالية، وتثري معارفهم بتأريخ آبائهم وأجدادهم، وفيها مزيد إيعاز لحمد الله تعالى على ما تنعم به المملكة من الأمن والسلام ورغد العيش، الذي ساهمت فيه حكومتنا السعودية حفظها الله بالإنفاق السخي على كل مناحي الحياة، وفي الختام أناشد أمناء البلديات بالحفاظ على ما بقي من تراثنا التأريخي ليبقى شاهداً ودليلاً.
عبدالرزاق سعيد حسنين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى