هناك مسافة فاصلة بين الأشياء والعقل, مما يجعل تلك المسافة تحول بين الحقيقة والزيف, بين الحق والباطل, بين الشر والخير, بين ما هو مجهول وما هو معلوم, فلا يرى الآخر مما يجهله في متواليات الاختلاف إلا ما هو قطعي الدلالة, فلا يُفهم إلا معنًا واحدًا فقط, وما هو معلوم لدى الآخر يتجه به إلى ظني الثبوت بعد أن وقع خطأه في تفسير المعاني الحقيقية للرأي أو الخطاب, ومن هنا يقع الخطأ في مجمله على المتلقي وليس على من يدلي بالأفكار ويوسع دائرة الآراء وفق ما يمليه الواجب، وما يحتمه الضمير ليحاول بعد ذلك الإجابة على التساؤلات التي تنبثق من واقع الحياة والمعايشة اليومية.
إن النظرة الأحادية ومن أضيق الزوايا هي ما تقصر في الموضوع لاستيعاب الخطاب ومضمون الرسالة, والسبب يعود في ذلك إلى حالة التيبس والصد المعرفي لرؤية الأشياء على حقيقتها وبكل أبعادها, وهذا الحجب هو ما يجعل المسافة تزداد طولًا وعرضًا وتعمّق حالة من الخلاف المحموم, ولن تقف عند هذا الحد, بل إنها تذهب إلى أبعد من ذلك لترى في الآخر صورة مختلفة ومقيتة تبعده عن آدميته, لتنتقل إلى حالة من العداء فتحاول جادة في الانتقام منه وطمس وجوده بالكلية, وهذا لاشك سلوك مشين يتعارض وقيمة الإنسان, ولا يتفق ومنطق العقل, وكذا منظور الشرع وحتى الجوانب الإنسانية؛ لأن إقصاء الآخر فضلا عن إلغائه هو بالضرورة إلغاء الذات على اعتبار أن العطاء قيمة لا يتحقق ولا يتفق إلا بالآخر على الأقل على مستوى القيم, كالعدل والشفقة والرحمة والإنصاف والتعاون وغيرها, فكيف لك أن تسهم بكل هذه القيم وأنت لا تكاد تكف في غلق كل طريق ولا تسمح بدخول أي معلومة إلى دائرة الاحتكام لعل ما يرد إليها يبصر النور سبلاً نافذًا إلى الحق أو إلى الحقيقة وفق سياق كل منهما وإن تعدد واختلف, قبل أن نقضي على كل معاني القيم الإنسانية بفعل هذه المسافة المظلمة وإن تضاءلت في نظر البعض, والتي في واقعها تحجب كل الوجود على مبدأ (ما أريكم إلا ما أرى) كفكر أعمى متخبط تنبعث منه رائحة الإناء المفرطة, لا المعتدلة التي تجعل من حضورها قواسم مشتركة تتجه نحو الوسطية والاعتدال وإقامة سلام داخلي مع الذات قبل الآخر, فلا إفراط ولا تفريط, أما الأنا الجوفاء الغاشمة والمنتهزة التي تسعى إلى الطرف الآخر بخطى حثيثة لتركسه عنوة في دائرة الذنب والخطيئة دونما جريرة ومن دون وعي ودراية, فهذا لاشك يعكس واقعًا نفسيًّا مؤلمًا ليس على مستوى الشخص نفسه بل سينعكس على واقع المجتمع على اعتبار التأثير والتأثر, ويتناقض مع مفهوم وحي السماء (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)؛ لأن نشدان الخيرية في الآية الكريمة يهدف إلى أن يطال الجميع بفعل طمس المساحة الفاصلة بين الذات والآخر, فمتى ما انتفت المساحة وقف الجميع على قدم المساواة, ومن ثم يبدأ الدور والفاعلية حسب جهد كل شخص وطاقته ( لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ ) ومن هنا تتكشف حالات القوة والضعف وتتضح الفروق الفردية والميول بين الناس, ولا لوم عليهم (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا), جماع القول علينا طمس معالم هذه المسافة الفاصلة التي تبدأ صغيرة جدًا وحتى واهنة فلا يضخمها إلا الأنا وأحادية الرأي التي تشوه كل الجوانب المشرقة في الإنسان الأمر الذي يزيد معه ومنه دائرة العداء والانتقام والبحث عن أي سبل ولو كانت مظلمة أو ظالمة لمحاولة إثبات الذات والانتصار والمغالبة دون حق أو وارد حجة وبرهان. وإلى لقاء..
عوضة بن علي الدوسي
ماجستير في الأدب والنقد
0