المقالات

اللاشعور و لذّة الإنجاز !

 

من أفكار علي الوردي المهمة في نظري فكرته التي بناها على اللاشعور ،و هي فكرة عالجها في كتابه المعروف “خوارق اللاشعور” ، و أكثر طرح الوردي يدور حول هذه الفكرة أو النظرية الفرويدية . من ذلك رأيه في أن أغلب الأعمال الناجحة هي تلك التي تنتج عن اللاشعور بعيدا عن الفكر الاستراتيجي و التخطيط المسبق .
و أجدني منذ زمن أميل لهذه الفكرة كميلي للنظرية الفرويدية نفسها حول الشعور و اللاشعور . علي الوردي يرى أن التخطيط المسبق غالبا ينتج الفشل ، في حين تأتي الأعمال الفارقة دون تخطيط ، و المقصود بذلك إعطاء التلقائية و اللحظة الراهنة مساحة في صناعة المنجز ، و هو لا يعني بالطبع ترك الإعداد الضروري في حدود المعقول ، فكل عمل قطعا هو محتاج إلى إرادة مسبقة ، كشأن أي فعل تسبقه إرادة ، لكن أن تتحوّل هذه الإرادة إلى إدارة فهذا ما لا يؤمن به الوردي و أشاركه هذا النظر ، ليس على مستوى الإنجاز المؤسسي فقط ، و إنما على مستوى الحاجات الفردية اليومية من لقاءات و مواعيد مسبقة مع الأصدقاء .
قبل أيام كنت أقول لصديق التقيته لقاء كان وليد ليلته و لحظته :
إنني أنحاز كثيرا لهذه اللقاءات العارضة التي تنبثق لي بين السطور غير المعدّة سلفا ، و أراها أشبه بلحظات الفنّ ، أو هي أشبه على وجه التحديد بالصورة الشعرية التي تنتج في لحظة فارقة أثناء كتابة النص ، لهذا غالبا ما أتحاشى اللقاءات بعيدة المدى المعدّة وفقا لتخطيط مسبق ، و سبق أن التقيت صديقي هذا في لقاء أعددنا له من قبل فخرج باردا ، كأنما كنّا نتحدث داخل إطار زمني شعرنا أنه يحكم كل شيء من حولنا فانعكس هذا الشعور الواعي على جلستنا التي كانت أشبه بجملة نحوية صارمة ، و منذ ذلك الحين و أنا أستبشر بالمناسبات التي أذهب إليها على غير موعد مسبق ، و قد تكرر معي في أكثر من مناسبة ، أذهب مبرطما و أعود بثغر باسم ، في حين أن كثيرا من اللقاءات التي أذهب إليها بثغر باسم قد أعددت للامر عدّته أعود منها مبرطما أو على الأقل بغير ذلك الشعور الوجداني الحميم الذي يصادفني في اللقاءات التلقائية .
و لديّ تفسير لهذا الشعور من حقل الأدب ، إذ تبدو المسافة التي بين اللغة و الفكر مسافة ضيّقة يصنعها الحدث الكتابي ، بحيث تبدو العبارات التي تنتج لحظة التحام اللغة بالفكر أعمق و أكثر شعريّة من تلك العبارات التي تبتعد فيها المسافة بينهما ، حين تصبح اللغة ناقلة للفكر لا ملتبسة به ، و هذا هو الحال مع المنجز في الجانب العملي و اللقاءات في الجانب الاجتماعي ، حيث نبدو في هذا السياق أشبه باللغة بالنسبة لما ننجز ، فإذا التبسنا بالإنجاز في لحظته الراهنة نتج عميقا حميما ، و قل مثل ذلك في لقاءاتنا و مناسباتنا ، و إذا أعددنا للامر عدّته و فصلنا بين الواقع و الشعور ، بين العمل و إنجازنا له وفقا لتفكير استراتيجي معدّ سلفا دخلنا فيما يمكن تسميته بالعمل المؤطّر ، العمل التقليدي المعدّ خارج لحظته ، الذي قد نخرج منه راضين عن الأداء إلى حدٍّ ما ، لكننا قطعا لن نخرج بما يمكن تسميته لذّة الإنجاز ، فتلك لذّة لا تحدث إلا خارج التخطيط الاستراتيجي ، لأنّ الإنجاز يصبح في هذه الحالة ، حالة عدم التخطيط أعني ، حالة شعرية منبثقة من عمق الالتحام بما نصنع ، و هذا سرّ أن لقاءاتنا التلقائية تبدو أكثر حميميّة من لقاءات الإعداد المسبق ، و في هذا السياق يحضرني تمثيل لطيف لعبد القاهر على الحشو في الكلام و المقاربة بينه و بين الطفيلي ، إذ يقول :
” فيكون مثله مثل الحسنة تاتيك من حيث لم ترتقبها و النافعة أتتك و لم تحتسبها ، و ربما رُزِق الطفيليّ ظرفا يحظى به حتى يحلّ محلّ الأضياف الذين وقع الاحتشاد لهم و الأحباب الذين وُثِق بالأنس منهم و بهم “.
و ما ذاك إلا أن لحظة الانبثاق أدعى للامتزاج بروح العمل و الإنجاز من خطة الاستباق ، و قل مثل ذلك في لقاء حميم ينبثق في لحظة زمنيّة خارج حسابات دفتر المواعيد !

سعود الصاعدي

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button