ما أضحكنا بالأمس أبكى شعوباً كاملة اليوم..
حدث ذلك منذ وقت ليس بالطويل، ثماني سنواتٍ تقريباً، كنا في قاعة المحاضرات لإحدى المواد التي تعتبر إختياري جامعة، وهي بذلك تجمع طلاباً من مختلف الكليات والتخصصات. كنت أجلس في إحدى الصفوف الأمامية حيث يجري ترتيب جلوسنا حسب الأحرف الأبجدية ويجاورني زميل ملتحٍ؛ في ذلك الوقت لم تكن اللحية الطويلة موضة وستايل كما هو الأمر اليوم؛ كانت اللحية أيامها دلالة واضحة على انتماء هذا الشخص الى إحدى الأحزاب الطلابية الإسلامية، فقد كان المظهر والملبس ونغمة رنين الهاتف عوامل تعبر عن حقيقة التوجهات الفكرية والحزبية، لقد كان التمييز أسهل في ذلك الوقت..
وفي غمرة انشغال الأستاذة بالشرح والاسهاب، طرح أحد الزملاء الجالسين في الصف الذي يتقدمنا مباشرة سؤالاً.. كان المراد بالسؤال لفت النظر و”الفلسفة” وبدا واضحاً أنه إضاعة للوقت ليس إلا.. لكن الاستاذة الشابة اتخذت ذلك الاستفسار الذي لا داعي له ولا حاجة سبيلاً لتثبت لنا سعة علمها وآفاق معرفتها الفسيحة، فشرعت تمطرنا بوابل من المعلومات والحقائق وتستعين بالرسوم الدلالية على السبورة موجهة حديثها للجميع وخاصة به الزميل المفلسف المتعطش للعلم بالمقعد الأماميّ.
مسكين! لقد بدا أنه قد تورط بالفعل فأمارات الذهول والندم بدت جلية على محياه ومحزنة..
كما ضحك كل من في قاعة المحاضرة ضحك زميلي الملتزمُ الجالس إلى جانبي من ورطته، لكنه لم يكتف بذلك، قام بلكزه في كتفه، فالتفت السائل الى صفنا خلفه متسائلاً.. ابتسم الملتزم وأردف ابتسامته مستدلاً بدليل شرعي:
بسم الله الرحمن الرحيم “يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم” صدق الله العظيم
****
انفجر كل من حولنا بالضحك، لقد كان الزميل الملتزم ذكياً نبيهاً، واستخدم الآية القرآنية بطريقة جميلة، طريفة وجذابة، فقد وظفها في مكان ربما هو لها وربما ليس لها بحكم أسباب النزول، لكنا ندرك تماماً بأن القرآن صالح لجميع الأزمنة والأمكنة وهو كتاب دينٍ ودنيا.
****
هذه الحادثة البسيطة أضحكتني في ذلك الوقت، كما كل من في القاعة، حتى الأستاذة الغاضبة فكت عقدتها وضحكت في حينه، ونسيت إكمال الشرح المستفيض،
لكن يبدو أن أمر زميلنا الذكي لم ينته بعد..
فمع مرور الأيام وتتالي الأحداث وغرابة توظيف الآيات القرآنية والنصوص الشرعية بدا أن الأمر قد خرج حقاً عن زمام السيطرة، ماكان لايعدو محاضرة أو مناصحة في ذلك الحين بدا اليوم محركاً لجحافل من جيوش شعبية ووقوداً يشعل فتيل ثورات أممٍ بأكملها.
أفلتت الضوابط والمبادئ وتقمص الكل دور ذلك الزميل الذكي الذي وجد مخرجاً شرعياً ووظف النص الشرعي في أمر أقل من عادي، فغدا تطويع النصوص الدينية ولَيّ أعناق الحقائق عملاً مجدياً وصوتاً عالياً مدوياً تجد له المنابر جاهزة للاعتلاء والآلاف مستعدون للإصغاء والإنصات.. بل والتمجيد والاتباع إن لزم الأمر!
****
لا أحد ينكر أننا نعاني من مشكلة حقيقية اليوم، الأمر برمته يتعلق بالنزاع بين أطراف سياسية، لكن منذ انتهى زمن الراشدين وحتى اليوم، كل طرف من الأطراف المتنحرة يسعى جاهداً ليدجج آراءه ووجهات نظره بدفاعاتٍ مسلحةٍ بنصوص قرآنية وكلام مقدس لا يقبل الناس أمامه إلا أن يستمعوا له وينصتوا.. لعل شيء من الرحمة تتسع لها الصدور ويأتي الفرج والنصر القريب.
القرآن حياة والدين رسالة وليس من خلاف على ذلك، لكن الخلاف برمته ينحصر في التأويلات والتفسيرات وتوظيفها لشرعنة إشهار أدوات الموت كلٌ في وجه الآخر!
إن أردتم أن تذبحوا فاذبحوا لأنكم تتعطشون لسفك الدماء لا لحجج ومبررات تلصقونها بدين المحبة والتسامح والسلام.
لقد اشتدت الحاجة الى تحمل رجالات الدين وأئمة الفقه والفكر مسؤولياتهم كاملة وعلى رأسها إعادة صياغة بعض من التأويلات التي تناسب مرحلتنا الدامية والوقوف صفاً واحداً بوجه أولئك الذين يعيثون في الأرض فساداً باسم الدين، ناشرين مزيداً من الموت والذعر والرعب واللجوء والتهجير وقتل الأنفس وهتك الأعراض واستباحة الحرمات. باتت ضرورةً ملحةً لوقفة جادة موحدة تلغي جميع الفيالق والسرايا والكتائب وليكن لواءً واحداً موحداً تظلله راية لا اله إلا الله.. ليعود دينُ المحبةِ والتسامح، دينُ تسامحٍ ومحبةٍ وحياة..