هذه الثنية المباركة التي ظهر منها طلعة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دخل المدينة المنورة مهاجرًا إليها، فقالت الأنصار -رضي الله عنهم- تلك الأبيات المشهورة، وهي:
طلع البدر علينا من ثنية الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
ولكن وقع فيها خلاف بين العلماء من أصحاب السير والمؤرخين وأصحاب الحديث، هل قيلت هذه الأبيات عند مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة يوم الهجرة الشريفة، أو قيلت عند مرجعه من تبوك، وأين هي ثنية الوداع وأين تقع؟
وهو عند الإمام البخارى وغيره: عن السائب بن يزيد رضي الله عنه، قال : أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك انتهى رقم الحديث : 4426.
ومعلوم أن روايات أهل الحديث جميعها لم تشتمل على أن أهل المدينة استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشيد :
طلع البدر علينا من ثنية الوداع
بثنية الوداع الشمالية عند مقدمه من تبوك كما توهمه البعض. ورجح ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد ذلك، وقال : وبعضهم يروي هذا عند مقدمه مهاجرًا وهو وهم، لأنّ ثنيات الوداع من ناحية الشّام.
وأما أصحاب السير: فبعضهم قالوا: إن أهل المدينة استقبلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثنية الوداع الشمالية يوم عودته من غزوة بدر الكبرى، وأنشدوا له :
طلع البدر علينا من ثنية الوداع
وهو قول لا يعتمد عليه؛ لأن ثنية الوداع الشمالية لم تكن تعرف بهذه التسمية في السنة الثانية من الهجرة كما سيأتي.
ومن أصحاب السير: قال الإمام ابن حبان في سيرته: بأن النشيد طلع البدر علينا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم بقباء يوم استقبلته الأنصار، يوم قدومه المدينة المنورة مهاجرًا إليها، فقال وهو يسرد طريق هجرته صلى الله عليه وسلم : فسلك بهم الخرار، ثم أجاز بهم ثنية المرة، ثم سلك بهم القفا، ثم أجاز بهم مدلجة لفف، ثم استبطن بهم مدلجة لفف، ثم استبطن بهم مدلجة مجاج، ثم سلك مرجح من ذي العضوين، ثم بطن ذي كشد، ثم أخذ بهما الجداجد، ثم الأجرد، ثم سلك بهم بطن أعداء، ثم مدلجة تعهن، ثم العبابيد، ثم الفاجة، ثم العرج، ثم بطن العائر، ثم بطن ريم، ثم رحلوا من بطن ريم ونزلوا بعض حرار المدينة، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، وبعثوا رجلا من أهل البادية يؤذن بهم الأنصار، فجاء البدوي وآذن بهم الأنصار، وصعد رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مبيضين ؟ فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة وهم خمسمائة رجل من الأنصار، فتلقى الناس والعواتق فوق الأجاجير والصبيان والولائد يقولون :
( طلع البدر علينا … من ثنيات الوداع )
( وجب الشكر علينا … ما دعا لله داع )
سيرة ابن حبان ص : 126/1
وبعض من قال بغير ذلك أو نفي أن يكون ذلك يوم الهجرة، فإنما اعتل بكون الثنية المعروفة بالوداع تقع شمالي المدينة وليس بجنوبها كابن القيم الجوزية. ولكن هذا الاستدلال لا يكفى للنفي، وكل هذه الأقوال تضمحل أمام هذه الروايات التى نوردها وهي : أن ثنية الوداع الشمالية التى تقع ببطن المدينة المنورة، والتى يعتمدون على موقعها لم تكن تعرف بثنية الوداع يوم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، بل ولم تكن تعرف بثنية الوداع يوم بدر في السنة الثانية من الهجرة الشريفة، حتى يصح أو يستقيم الاستدلال بها، بل كانت تسمى ثنية الركاب وليس ثنية الوداع. وإنما سميت بثنية الوداع واشتهرت بها عام خيبر سنة سبع من الهجرة الشريفة بعد أن وادعتهم نساء المتعة عندها عند عودتهم من غزوة خيبر كما في المعجم الأوسط عند الإمام الطبراني، وفيه : عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، قال : خرجنا ومعنا النساء التي استمتعنا بهن حتى أتينا ثنية الركاب، فقلنا يا رسول الله : هؤلاء النسوة اللاتي استمتعنا بهن، فقال رسول الله : هن حرام إلى يوم القيامة، فودعننا عند ذلك، فسميت بذلك ثنية الوداع، وما كانت قبل ذلك إلا ثنية الركاب .. المعجم الأوسط (1 / 287) .
وهذه الرواية واضحة ودقيقة : بأن هذه الثنية لم تكن تعرف بثنية الوداع قبل سنة سبع من الهجرة، بل كانت تدعى ثنية الركاب، ولكن بعد حادثة الموادعة أصبحت تعرف بثية الوداع. وهذا الخبر أيضا رواه الإمام عمر ابن شبة مؤرخ المدينة المنورة الثبت في تاريخه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال : إنما سميت ثنية الوداع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من خيبر ومعه المسلمون، قد نكحوا النساء نكاح المتعة، فلما كان بالمدينة، قال لهم : دعوا ما في أيديكم من نساء المتعة، فأرسلوهن، فسميت ثنية الوداع (1 / 163) أي بعد يوم الهجرة بسبع سنوات.
وقال الإمام السيد علي السمهودى في تاريخه وفاء الوفاء: أخرج البخاري بلفظ: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام، جاء نسوة كنا تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، فغضب وقام خطيبًا وأثنى على الله، ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ، فسميت الثنية بالوداع. وفاء الوفا : 1168/4
ومن المعروف أن غزوة تبوك وقعت في سنة تسع من الهجرة. وبهذا نعلم: أن ثنية الوداع الواقعة بشمال المدينة المنورة كانت تسمى ثنية الركاب، ثم سميت ثنية الوداع بسبب ما جرى فيها من الموادعة للنساء سنة سبع من الهجرة كما في رواية الطبراني ورواية ابن شبة، أو سنة تسع كما في رواية البخارى التي نقلها السمهودي في تاريخه الوفا هنا.
وهذه الروايات تفيدنا: بأن ثنية الوداع الشمالية لم تكن تسمى بثنية الوداع إبان الهجرة النبوية الشريفة، ولا حتى أثناء غزوة بدر سنة اثنتين من الهجرة. وبهذا يضعف قول الإمام المقريزي ومن رأى رأيه الذى قال: إن الانصار استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الثنية حين دخل المدينة عائدًا من غزوة بدر، وأنهم أنشدوا بين يديه قصيدة:
( طلع البدر علينا … من ثنيات الوداع )
( وجب الشكر علينا … ما دعا لله داع )
وأن بعض الرواة قال: إنما كان هذا عند مقدمه المدينة، وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام انتهى .. إمتاع الأسماع : 8 / 394 .
وهنا نقول : وأما من قال : إن ثنية الوداع كان به استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عودته من تبوك فهو صحيح، ومعلوم وثابت، ولكن لا يوجد هناك نقل أو رواية أنهم أنشدوا قصيدة: طلع البدر علينا في حينها.
وبهذا يحق لنا أن نقول: بقى لدينا خيار واحد، وهو ترجيح وتأكيد وقوع الإنشاد بقصيدة طلع البدر علينا يوم الهجرة الشريفة. فإذا تقرر ذلك، فيكون هذا شاهدًا ودليلًا: على أن نقول: إن المكان الوارد في هذا النشيد، وهى ثنية الوداع، يكون موقعها بجنوب المدينة المنورة في جهة قباء حيث استقبل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأول مرة، وليس في شمال المدينة المنورة إطلاقًا. بدليل : أن الانصار رضي الله عنهم كان استقبالهم لرسول الله صلي الله عليه وسلم لأول مرة بوادي قباء، حين ظهر عليهم من تلك الثنية، وقد تضافرت الأخبار بأن يوم الهجرة الشريف كان يومًا مشهودًا في تاريخ أهل المدينة المنورة الشريفة، وقد فرح أهلها بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فرحًا لم يفرحوا بمثله قط، ولم يبتهجوا بسرور نظيره قبله قط، فقاموا بإنشاد هذه القصيدة يوم قدومه صلى الله عليه وسلم بين يديه كما رواهٍ الإمام البيهقي في دلائل النبوة وإن كان الحديث على سنده علة، وكما ذكرها الإمام ابن حبان في سيرته كما سيأتي. وكان الأنصار رضي الله عنهم يخرجون إلى سند الحرة من قباء في كل يوم يرتقبون قدوم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وينتظرون الركب الكريم، حتى إذا لم يروا ركبًا وطال عليهم الانتظار، واشتدت حرارة الجو عادوا إلى منازلهم منصرفين، ليعودوا في اليوم الذي يليه، حتى إذا كان يوم ظهور محيا هذا النبي الكريم، وإشراقه العظيم على سماء طيبة، وظهور شمسه الأكمل علي وادي قباء، كان الأنصار رضي الله عنهم ينتظرون كعادتهم طلوع بدر الدجي عليهم من ثنيات الوداع بقباء، فلما طال انتظارهم له واشتدت حرارة الجو عليهم، ولفحتهم حرارة الشمس بلظاها، عادوا إلى رحالهم كعادتهم في كل يوم، فما إن عادوا هذا اليوم إلى منازلهم، حتى سمعوا صوتا لرجل من اليهود يصيح بأعلى صوته: يا بني قيلة يعني الأنصار، هذا جدكم يعني رسول الله صلى عليه وسلم. وكان الركب النبوي المبارك قد لاح لليهودي من بعيد، وكان اليهودى مشرفًا على مكان عال له، فأبصر موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه مبيضين، فاستعاد الأنصار رضي الله عنهم نشاطهم، وخرجوا مسرعين للتحقق من نداء اليهودي، فإذا بموكب رسول الله صلى عليه وسلم وأنواره قد أشرقت، فأنشدوا لاستقباله هذه النشيد المشهود، إظهارًا للفرح وإعلانا للسرور، وهم يضربون الدفوف وينشدون:
( طلع البدر علينا … من ثنيات الوداع )
( وجب الشكر علينا … ما دعا لله داع )
ومن المعلوم : أن الاستقبال العام الذى قيل فيه النشيد المشهور كان مرة واحدة وهو يوم الهجرة. وبهذا نستطيع أن نقرر أو نرجح: بأن ثنية الوداع التي ظهرت منها طلعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم كانت بناحية قباء، حيث وقع الاستقبال العظيم، والترحيب بلقياه الأول المبارك كما قرره الإمام مجد الدين الفيروز آبادى صاحب القاموس في تاريخه (المعالم المطابة)؛ حيث قال: بعد أن سرد بعض الأقوال التى ترجح أن ثنية الوداع تقع بجنوب المدينة المنورة ما نصه: هكذا قال أهل السير والتاريخ وأصحاب المسالك: إنها من جهة مكة، وأهل المدينة اليوم يظنونها من جهة الشام، وكأنهم اعتمدوا قول ابن قيم الجوزية في هديه (أي كتابه زاد المعاد في هدى خير العباد) : فإنه قال : من جهة الشام ثنيات الوداع، ولا يطأها القادم من مكة البتة، ووجه الجمع أن كلتا الثنيتين ( يعنى الشمالية والجنوبية ) تسمى الوداع انتهى كلام الإمام مجد الدين الفيروز آبادى رحمه الله بنصه , صفحة 80 /1
وبهذا يمكننا أن نقرر :
1- أن ثنية الوداع الشمالية لم تكن تعرف إلا بثنية الركاب.
2- عرفت ثنية الركاب بثنية الوداع بعد السنة السابعة للهجرة.
3- يرجح بأن ثنية الوداع الواردة في النشيد كانت بقباء.
4- النشيد قيل في استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم هجرته.
وهذا ما وصلت إليه من بحث في هذا الباب، جمعت فيه بين الروايات الواردة في شأن ثنية الوداع المدنية، في محاولة للخروج بفائدة تنفع المسلمين والباحثين .. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين
د. ضياء محمد مقبول عطار
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
المدينة المنورة