عوضه الدوسي

في النقد الموضوعاتي

يدرس النقد الموضوعاتي النص من خلال علاقاته الداخلية؛ لأن القراءة الموضوعاتية تهدف إلى كشف البنية العميقة لخيال المبدع, وكيف تعامل بوعي مع الأشياء.

يقول البحتري :

          وقد نبّه النيروز في غسق الدجى…. أوائـل وردٍ كُنّ بالأمس نوَّما

 إن الشاعر البحتري من خلال هذا البيت ينقل لنا خطابا واعيا ينضح من وجدانه الجميل ويشكل للمتلقي  ثراءً معرفيا زاخرا يفيض بمعاني جمة لنعرف الشيء بضده, وتصل متواليات ذلك بكل أبعادها, فـ ( نوما) حالة غفو وذبول لورد مزهر في النفس قبل المكان, والشاعر ينقل لنا هذه الصورة المحسوسة في وجدانه من خلال خيال واسع, فالمشاهدة لم تكن حاضرة رأي العين  وإنما استدعاها من ذاكرة غنية تتوهج بصور الوجود الجميلة, إلى جانب شعوره الصادق ووعيه بكل المحسوسات, فينقل المتلقي إلى حالة تذاهنية لإعمال العقل, ويتعامل مع الصورة  وفق خبرته الجمالية, بل يرقى بها إلى معارج من العلو, ليبدأ بعد ذلك العقل في التعامل مع الصورة مفاهيمياً , فيرى الحياة على سعتها والوجود على إطلاقه.

إن تلك الصورة التي يسوقها البحتري كلوحة مشهدية نرى فيها اخضرار الأرض, وتنوع الزهور, حتى أنك ترى, وبصورة أشبه ما تكون حية , فتتوارد إلى الذهن صور الفراشات حين تحلق بألوانها الزاهية وترف حول كل زهرة, ترى النحل يتعاقب في مشهد بديع يمتص الرحيق, ليبني عالما آخر نعجز عن إحاطته, الأمر الذي يستدعي وقفات من التأمل لرصد كل المشاهد, ترى في صورة جميلة وبديعة تلك الأزاهير المياسة تتعطف من أوساطها  بنسمات الصبا ليرقى لديك خيالات أخرى  تماثلها في العالم الواقعي بامتداد وتشكل أفقي,  كل هذا بفعل اللغة وقوة تأثيرها, بفعل الموضوع الذي انبثق منه معارف متعددة, وتلك الصورة الحسية التي نقلها إلينا الشاعر كان لها حضور ووقع وأثر في ذاته, ولهذا بات من المؤكد ودون أدنى شك  أنه يبقى بيننا وبين المحسوسات مسافة, متى ما  ارتقت إلى الذهن, وتفاعل معها الإنسان أو الرائي ضمن آليات التفكير الإبداعي الذي يتحقق معه حالة فريدة مبدعة ترى الوجود بجماله, ترى البيئة المحيطة بكل أبعادها وتبايناتها, كل ذلك يكون بقوة المبدع من خلال توظيف اللغة والمفردة المنبهه, إلى جانب أن ذلك  يحسب للمتلقي هو الآخر من جانب الدور الواعي والتفاعل مع الموضوع حسب خبرته الجمالية, فمن خلال موضوع واحد فقط أثارت اللغة جوانب متعددة ومعارف مختلفة, فمتى ما وظف وسيط مناسب في إطار العلاقة الجدلية بين العقل والخيال الذي جمح به الشاعر عنان السماء ليقابل ذلك دور المتلقي في توظيف عقلة وحسه وشعوره تجاه الأشياء, وما أن تصل إلى الحالة المفاهيمية حتى تبدأ المعارف,ويتشكل عالم من الأنساق المختلفة .

إن موضوعا مثل (نوما) تلك اللفظة الصغيرة في مبناها والكبيرة في معناها التي أثارت جوانب الوعي, وحفّزت الخبرة في الاتجاه الإيجابي للمعرفة في كلا الاتجاهين المبدع والمتلقي؛ لأن الحضور الذهني والعقل الواعي والتفطن للأشياء, هي عوامل أساس وحوامل للمعرفة,  فالمدرَك يبقى حاضرا للمدرِك  ولكن على مسافة, فمتى ما دنى منه واقترب, فإن العلاقة تظل قائمة ومتفاعلة وتبادلية بين ما هو محسوس وبين العقل, عند ذلك فقط ترى الوجود بجوهره الحقيقي وطبيعته المثلى الخلابة.

 عوضه بن علي الدوسي

ماجستير في الأدب في النقد

 

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مبدع كعادتك كاتبنا عوضه الدوسي ..الى الأمام وانا من أشد المعجبين بطرحك ومتابع جيد لما تكتب ..فقد أثبت للقاصي والداني أنك حصان اجتاز الحواجز جميعها بإقتدار وحزت على كاس البطولة فالسلم الذي أرتقيت إليه حافظ على المستوى الذي وصلت إليه ونحن نفتخر بإبن بار انجبته دوس زهران ليكون هنا وهناك يصدح بكلمة الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى