كان يُحرق بعض الأوراق التي لا يحتاج إليها، فلمست يده النار دون قصد منه، فأحرقته وآلمته ألماً شديداً، فجعل ينظر إلى النار وهي تلتهم الأوراق التهاماً، فلا تكاد تبقي منها شيئا ً ولا تذر إلا رماداً تذروه الرياح.
قال في نفسه: إذا كنا لا نستطيع أن نحتمل هذه النار لثوانٍ معدودة، فكيف نستطيع تحمُّل نار الآخرة وهي (جزء واحد من سبعين جزءاً من حر جهنم) كما ورد في الحديث الذي رواه الترمذي (صحيح الترغيب: 4/226].
*****
وفي ذات الحديث حينما سمع الصحابة بما جاء عن وصف جهنم قالوا: (والله إن كانت لكافية يا رسول الله) أي أن نار الدنيا كافية من حيث العظة والوعيد.
*****
وتأمل صاحبنا في النار التي تتلظى أمام ناظريه، وتطلع في أثر الحريق على أصبعه، وقال في نفسه: إن الصبر على الطاعات أهون بكثير من الصبر على النار ولو للحظات قليلة، وحبس النفس عن المعاصي أسهل بكثير من التعرض للنار ولو لطرفة عين.
وتساءل: هذا ما يتعلق بنار الدنيا فكيف بنار جهنم؟!
*****
وورد عن بعض السلف الصالح أنه كان إذا همَّ بمعصية أحرق إصبعه بنار الفانوس، وخاطب نفسه: هل تتحملين نار الآخرة؟!
*****
وقفز إلى مخيلته منظر الدجاج المشوي الذي يمرّ به يومياً في طريقه إلى البيت دون أن يسترعي انتباهه وهو يُقلَّب في النار، وتذكر حينها الآية التي ترتعد لها الفرائص رعباً: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا
لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب: 66].
*****
إن النار إذا أحرقت أحدنا اليوم في موضع صغير من جسده لدقيقة أو دقيقيتين أحدثت فيه من الألم والتغير في لون الجلد والضعف والإعياء ما يستدعي تدخل الأطباء وتناول الأدوية والعقاقير الطبية طلباً للشفاء الذي قد يتأخر طويلاً حتى تعود
العافية إلى الجسد، فكيف إذا لبث في النار سنين عدداً؟!
بل إن أحدنا إذا وطيء برجله جمرة صغيرة أو انسكب فيه ماء حار ظل يتلوى ألماً ويغلي دماغه من شدة الوجع؛ فكيف إذا كانت النار مثواه ومتقلبه؟!
*****
وتساءل في قرارة نفسه: ما أسهل الكف عن المعاصي من شرك بالله، وابتداع في الدين، وقتل، وزنا، وشرب، وخمر، وتبرج، ….، إلخ قياساً على حرِّ جهنم، ما أسهل حبس النفس عن الشبهات والشهوات مقارنة بتحمل النار، وما أسهل الطاعات عند استحضار
ما أعده الله من جزاء وثواب في جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
*****
إذن فالأمر أخطر مما نتصوّر؛ لأنه يتعلق بمصيرنا وحياتنا الأبدية، الحياة الحقيقية، حياة الخلود إما في جنة النعيم، وإما في نار السموم.
*****
وإذا كنا لا نستطيع تحمل درجات الحرارة العالية في الصيف، فكيف إذا دنت الشمس من الرؤوس مسافة ميل في يوم القيامة، يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، تعتبر أعمارنا القصيرة بالنسبة إليه ساعة من زمان!
****
فكفانا غفلةً؛ فإن الآخرة أقرب إلينا مما نتصور، وإن غفلتنا عنها بمثابة اللعب بالنار، مع أن بيننا وبين الآخرة مجرد الموت فقط، والموت يأتي فجأة ولا يعرف أحد موعده؛ فينبغي أن نعد له العدة، وأن تكون هذه القضية حية حاضرة في أذهاننا
وقلوبنا، وكما في الحديث: (إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه) [صحيح الجامع: 1684]، والقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران.
*****
إذن الأمر يحتاج لجدية أكبر؛ حتى نقدم لحياتنا الحقيقية في الآخرة لئلا يكون شأننا شأن من قال الله جل وعلا فيه: (يا ليتني قدمت لحياتي) أو قال فيه: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ
صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].
علي صالح طمبل