المقالات

نسيت جوالي ولم أمت..!!

 

ذات يوم كنت مشغول الذهن بامتحان يُفترض أن أجلس له في نفس اليوم، فخرجت من البيت في عجلة من أمري، وقطعت مسافة طويلة؛ لكني فجأة تذكرت شيئاً ما، فتحسست جيبي الأول بحثاً عنه، ثم جيبي الثاني، والثالث؛ لأكتشف أخيراً أنني نسيت الجوال في البيت!

فقلت في نفسي: هل أرجع مرة أخرى لأتناول الجوال ؛فأتأخر عن العمل، ومن ثم عن الامتحان؟ أم أمضي في طريقي مهما كلفني الأمر؟!

وتساءلت: ماذا لو اتصل بي البعض ووجد جوالي في البيت، كيف سيتواصلون معي، خاصة إذا كان الموضوع في غاية الأهمية؟ ماذا لو راسلوني في أمر مستعجل عبر الواتساب أو الرسائل النصية ولم يتلقوا رداً مني؟

*****

وهكذا دخلت في صراع نفسي، وترددت أول الأمر؛ إلى أن اتخذت قراراً كان يحتاج مني إلى شيء من العزيمة والإصرار، قررت أن أذهب إلى العمل دون جوال، وليكن ما يكون!

*****

وبالفعل ذهبت إلى المكتب، ومارست عملي كالمعتاد، بل أفضل من المعتاد من حيث الجودة والتركيز، حين أبعدت عني الشواغل والملهيات، وعلى رأسها الجوال.

*****

ثم أخذت أراجع مادة الامتحان، وألتهم الصفحات التهاماً، حتى قطعت شوطاً كبيراً منها في فترة وجيزة، وكنت أكثر استيعاباً وهضماً لمحتوى المادة التي قرأت منها ما لا يقل عن مائة صفحة!

والأهم من ذلك أنني شعرت براحة عجيبة وطمأنينة افتقدتها طويلاً، وشعرت لأول مرة منذة مدة طويلة بخصوصيتي واستقلالي.

*****

وحين عدت إلى البيت مساءً راجعت الجوال، فلم أجد مكالمة مهمة ولا رسالة في أمر ضروري، وحتى الشخص الوحيد الذي أوصى بأن اتصل به متى ما عدت إلى البيت لم يكن موضوعه مهماً بالدرجة التي تجعلني أتصل به بمجرد وصولي كما ذكر!

*****

حقيقة، لقد جعلتنا التقنية الحديثة نعيش في وهم كبير، وصوّرت لنا أننا لا نستطيع الاستغناء عنها لحظة واحدة، فترى الواحد منا يراجع الجوال في اليوم عشرات المرات؛ حتى لو كان ذلك على حساب علاقته بأسرته وأهله وأصدقائه، بل على حساب علاقته بربه سبحانه وتعالى؛ إذ أن كثيراً منا لا يقطع صلته بالجوال حين يتصل بربه، فصار معتاداً أن نسمع أثناء الصلاة نغمات الجوالات تنطلق من حين لآخر لتفسد خشوع المصلين!

*****

وربما جاء أحدنا إلى المسجد وهو يتحدث بالجوال، أو يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، فيدخل الصلاة بقلب ساه وفكر شارد، لم يغب الجوال باتصالاته ورسائله عن خاطره لحظة واحدة؛ فتكون المحصلة أن يخرج من الصلاة بخُفَي حُنَين!

****

وما إن تنتهي الصلاة حتى يسارع الواحد فينا في لهفة لمطالعة جواله وما استجد فيه من مهاتفات ومراسلات، ناسين أو متناسين الباقيات الصالحات التي هي خير وأبقى عند الله تعالى!

*****

وصار من المعتاد أن ترى مجلساً يضم رجالاً أو نساء، ينشغل بعضهم عن البعض الآخر بجوالاتهم؛ ليستبدلوا التواصل المباشر بالتواصل الافتراضي!

*****

وقد تجد ذلك الواقع داخل الأسرة الواحدة التي صار كل فرد من أفرادها يعيش في جزيرة معزولة في عالم الجوال الافتراضي، لا يجتمعون ولا يناقشون أمور الأسرة إلا لماماً.

*****

هذا غير ذنوب الخلوات حين يشعر الإنسان بابتعاده عن رقابة البشر؛ فيطالع المواقع الإباحية عبر الجوال، ويتبادل مع غيره من الآثمين الصور والمقاطع والموضوعات الخليعة، متغافلاً عن الرقابة الإلهية التي لا تغيب عنه طرفة عين، و*جاعلاً الله جل وعلا أهون الناظرين إليه!.

*****

نحن لسنا ضد التعاطي مع التقنية الحديثة، لكننا مع التعاطي الإيجابي الذي يكون بقدر الحاجة، دون تفريط يجعلنا نعيش في عزلة عن التقنية والمستجدات، أو إفراط يجعلنا نعيش في قطيعة مع واجباتنا تجاه ديننا ومجتمعنا، تعاطٍ يحتفظ لنا بحياتنا الخاصة، ولا يكون خصماً على علاقتنا بالآخرين.

****

ولنتذكر أن الإنسان صنع هذه التقنيات لتخدمه، لكن الواقع يؤكد أن كثيراً من الناس صاروا عبيداً وخُدَّاماً لهذه التقنيات، تسيِّرهم وتبرمجهم كيف شاءت، ومتى شاءت!

*****

جرِّبوا أن يكون لكم وقتكم الخاص الذي تغلقون فيه الجوال، أو تضعونه في الصامت على الأقل، جرِّبوا أن تعيشوا حياة طبيعة تلقائية، تخلون فيها إلى أنفسكم، وتلفتون فيها إلى أسركم، وتسامرون فيها أحبابكم، وتباشرون فيها مسؤولياتكم؛ وتعودون فيها إلى سجيتكم وإنسانيتكم، بعيداً عن برود التقنية وجفاف الآلة، حياة لا إملاء فيها ولا تدخل ولا وصاية من أي جهة كانت.

*****

وثقوا أنكم ستشعرون حينها بسعادة غامرة، ومتعة لا مثيل لها، حين تعودون إلى فطرتكم، وتكسرون الروتين الذي صنعته الآلات الجوفاء والتقنيات الصماء، وأيقنوا أن عجلة الحياة لن تتوقف، ولن يفوتكم شيء ذو بال، ولن تموتوا بإذن الله تعالى.

علي صالح طمبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى